Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما أخفق نابليون في أن يكون مكيافيليا كاملا

ألوف الصفحات من الكتابات التفسيرية والشروح المتناقضة والسؤال الأهم لا يزال على حاله: من هو صاحب كتاب "الأمير" الحقيقي؟

مكيافيلي ونابليون وجهتان متعارضتان (اندبندنت عربية)

ملخص

يبدو فكر مكيافيلي في استقلاله عن حياته أو ارتباطه بها، قضية إشكالية دائماً ما تثير شهية الباحثين وتنشط تفكيرهم لا سيما حين يتعلق الأمر بقضية السلطة والحكم وشؤون العلاقات الدولية ومفهوم الدولة واحتكارها للعنف

إذا كان الفيلسوف هوايتهيد قال في معرض حديثه عن أفلاطون، مؤسس الفلسفة في تاريخ الفكر، إن كل ما أبدعه الفلاسفة وكتبوه طوال ألفيتين وأكثر لا يعدو أن يكون هوامش على صفحة من صفحات أفلاطون، فإن هذه الوضعية تبدو في نهاية الأمر خاصة بصاحب "الجمهورية" و"المحاورات السقراطية".

وفي المقابل قد يبدو من نافل القول هنا إن ثمة مفكراً لا فيلسوفاً بالتحديد، يتمتع بوضعية لا تبعد عن تلك كثيراً. وهو بالتحديد مكيافيلي الذي ومنذ كتابه "الأمير" قبل أكثر من نصف ألفية، لا يزال محور مناقشات وسجالات وخلافات لم تحسم حتى اليوم، فمن المفسرين النهضويين إلى معاصرنا طوني نيغري، مروراً بريمون آرون وكلود ليفور ومئات غيرهم من أصحاب الفلسفة السياسية، ثمة على الدوام شبح اسمه نيقولو مكيافيلي يقض مضاجعهم سلباً وإيجاباً ويشغل عقولهم تعريفاً وتفسيراً وربما تبريراً ونقضاً في آن معاً، من دون أن يرتاحوا إلى فكرة محددة بصدده حتى ولو تعلق الأمر بأكثر أفكاره بساطة سواء عبر عنها في كتابه العمدة "الأمير" أو في "فن الحرب" أو "تاريخ فلورنسا" أو حتى في... مسرحياته الهزلية التي غالباً ما دنت من أجمل أعمال "الكوميديا ديل آرتي".

ففي نهاية المطاف يبدو، وسيبدو دائماً، أن مكيافيلي وتحديداً فكر مكيافيلي في استقلاله عن حياته أو ارتباطه بها، قضية إشكالية دائماً ما تثير شهية الباحثين وتنشط تفكيرهم لا سيما حين يتعلق الأمر بقضية السلطة والحكم وشؤون العلاقات الدولية ومفهوم الدولة واحتكارها للعنف. ونعرف بالطبع أن هذه الجزئية الأخيرة مطروحة في عالمنا العربي بقوة خلال العقد ونصف العقد الأخيرين إنما من دون أن نجد ذكراً لمكيافيلي في مجمل النقاشات المطروحة... هذا إن كانت هناك نقاشات حقيقية مطروحة!

المكيافيلي كإنسان

لقد ذكرنا أعلاه عرضاً اسم كلود ليفور بوصفه واحداً من الباحثين المعاصرين في الفكر السياسي المهتمين بمكيافيلي. والحقيقة أن ليفور كان منذ بداياته المنشقة عن نوع متطرف من الفكر الاشتراكي منذ أربعينيات القرن الـ20، وغالباً إلى جانب الفرنسي اليوناني الأصل كاستورياديس، كان من المهتمين بالتقريب بين جوهر الأفكار المكيافيلية والفكر الاشتراكي الحديث، في الأقل في ما يتعلق بمسألة السلطة والدولة واحتكار هذه الأخيرة للعنف والسلاح في حيز جغرافي محدد. وهو، أي ليفور، كرس كثيراً من وقته وطاقاته الفكرية للعمل على مكيافيلي وصولاً إلى خص هذا الأخير بكتاب ضخم عنوانه "العمل على نتاج مكيافيلي".

ولعل في وسعنا أن نزعم هنا أن ليفور ومنذ الصفحات الأولى لكتابه دخل في موضوعه بصورة مباشرة وذلك عبر سؤال يتسم بقدر لافت من البساطة: ما هي المكيافيلية في فولكلور الذهنية الحديثة؟ وهو سؤال استتبع لديه بالطبع سؤالان آخران أولهما: ما ماهية الشخصية المكيافيلية، وما هو المشروع المكيافيلي ومآله؟ والحقيقة أن كتاب ليفور هذا بأكمله يبدو نوعاً من الإجابة عن هذه الأسئلة التي يمكن النظر إليها بوصفها سؤالاً واحداً في نهاية الأمر. ومنذ بداية الصفحات العديدة التي يكرسها ليفور لإجابته يحدد لقارئه أنه ينطلق فيها من تعريف لقاموس ليتريه يدخل المروق الأخلاقي وسوء الطوية في تعريف المكيافيلية، بيد أن ليفور يستطرد هنا قائلاً إنه يرى أن أياً من هذين التوصيفين لا يمكنه أن يستنفد المكيافيلية تفسيراً وتحليلاً، أولاً لأن المروق الأخلاقي يتطلب من صاحبه أن يكون جباناً، وثانياً لأن الإنسان السيئ الطوية لا يكون عادة واثقاً من نفسه ومما يفعل بل جاهلاً تماماً لما يتوخى الوصول إليه. فـ"بالنسبة إلى التوصيف الأول كما بالنسبة إلى التوصيف الثاني، يكون ثمة افتقار حقيقي وواع للإرادة الواعية في مضمار اللجوء إلى الخيانة والكذب للوصول إلى هدف مرسوم مسبقاً بدقة".

بين الجدة والفرادة

بالنسبة إلى كلود ليفور، "تفترض المكيافيلية أول ما تفترض نوعاً من الهيمنة المسبقة على السلوك الذي يتبعه المكيافيلي. فالمكيافيلي شخص يلجأ إلى السلوك الشرير طواعية، ويضع مهارته في خدمة ممارسة تنبني منذ انطلاقتها لتتسبب في خسارة يمنى بها الطرف الآخر. بالتالي فإن المكيافيلي لا يمكنه أن يكون ذاك الذي يلجأ إلى الحيلة أو إلى الخديعة، متساوقاً مع مزاجيته الخاصة. فهو إن لجأ إلى الحيلة فإن الحيلة سلوك ممنهج، وإن لجأ إلى الجريمة فإن هذه يتعين أن تكون إمارة على ممارسة مكيفة تماماً مع الهدف المنشود أو شفافة تنم مباشرة عن ذاتها". ومن ثم نكون في حقيقة أمرنا وكما يستخلص ليفور، في مواجهة وضعية تتضافر فيها، عبر شراكة لا تنفصم، مجموعة من السمات التي تعطي تلك الممارسة (المكيافيلية تحديداً) جدتها وفرادتها. وفي المقام الأول هنا، سيظهر بالنسبة إلى تحليل ليفور، نوع من حساب مدروس يتعلق بمجمل الوسائل التي يتوخى منها الوصول إلى هدف محدد منذ البداية. ومنها استباق سلسلة من العمليات التي يؤمن تضافرها المتتابع نجاح العملية بأسرها بما في ذلك استباق ردود فعل الطرف الآخر (الخصم).

بشيء من الاختصار، إذاً، لا بد من النظر إلى الشخص المكيافيلي باعتباره صانع استراتيجية... غير أن هذه الاستراتيجية يفترض بها أن تكون مؤلفة من عدد كبير من حيل وألاعيب ومناورات. بمعنى أن المكيافيلي يجد نفسه في نهاية الأمر قابضاً على لعبة لا يدرك غيره مضامينها ولا حتى خيوطها الرئيسة، بحيث إنه يكون قادراً على إيقاع خصومه في أفخاخ ينصبها لهم ولا يدرك غيره شيئاً عنها ولو كان هذا الغير من حلفائه. ومن هنا فإن ما يستتبعه ذلك كله إنما هو حسبان متحايل يتبع خطة بالغة السرية والتكتم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كأننا في مشهد سينمائي

ترى هل يذكرنا هذا كله بشيء؟ سينمائياً، ربما بما كان يردده المخرج السينمائي ستانلي كوبريك في أعوام الأخيرة حين كان لا يكف عن إعلان رغبته في "الشروع فوراً في تحقيق" فيلمه، الذي لن يحققه أبداً كما نعرف، عن نابليون، هو الذي كان يقول إنه يرى أن الألعاب الاستراتيجية التي سيتبعها خلال عمله على الفيلم، ستكون نوعاً من المزج بين المكيافيلية والنابليونية. والحال أن كوبريك لم يكتف بتصريحات وثرثرات تدور من حول هذه الفكرة التي بدت غريبة لكثر يومها، بل أتبع النظرية بتمهيد رائع لممارسة عملية إذ خلف مجلداً نشر لاحقاً في أكثر من 1000 صفحة يتضمن كل "الاستراتيجيات" التي صممها لتحقيق الفيلم وليس المشاهد القتالية وحدها في الفيلم وهي نصوص ورسوم وخرائط أصدرتها دار النشر الألمانية "طاشن" في لغات عدة.

ولعل ما يجدر ذكره في هذا المجال هو أن كوبريك كان يردد للمحيطين به أنه لئن رغب يوماً في أن يكتب في مقدمة الفيلم إهداء ما فإنه سيكون لذكرى مكيافيلي وربما ليس لـ"بطل" الحكاية نابليون "لأن هذا وبعد بداياته الرائعة لم يعرف كيف يكون مكيافيلياً بما فيه الكفاية". ولعل إخفاقه في ذلك كان السبب الرئيس في هزيمته ودماره. ويعيدنا هذا على الأرجح إلى مكيافيلي وتحديداً كما تحدث عنه كلود ليفور في كتابه الذي نتحدث عنه هنا. "فأن تكون مكيافيلياً يتطلب منك أن تتبع منطقاً هو المنطق المكيافيلي المكون من مجموعة حيل بالغة الذكاء والفعالية تنتج كل مجموعة منها مجموعات أخرى، وأن تكون منحرفاً يعرف كيف يمارس انحرافه برزانة مطلقة، ومجرماً يجد متعته في ممارسة إجرامه" هذا بالنسبة إلى خلاصة ما حدده كلود ليفور لمواصفات المكيافلية.

أما السؤال الأخير هنا، الذي يحيلنا هذه المرة إلى مفهوم آخر من مفاهيم المكيافيلية، فلم يقصر ليفور نفسه في شرحه وتفسير ضرورته إذ يتعلق بالميزانسين (الإخراج) الذي يجعل منه صاحب العلاقة نفسه مكيافيلي حجر الرحى في الماهية المكيافيلية. فهل أدرك نابليون، على سبيل المثال أهميته في اللعبة الخطرة التي خاضها؟ أبداً يقول لنا هذه المرة ستانلي كوبريك في المجلد الضخم الذي حل في نهاية الأمر بديلاً عن الفيلم النابليوني الذي لم يحقق أبداً مستطرداً، أن مشكلة نابليون الأساسية تكمن في أنه لم يعرف كيف يكون مكيافيلياً وربما لأنه وجه مواهبه وثقته بنفسه وجهة غير تلك التي عناها مكيافيلي ونقلها عنه كلود ليفور...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة