Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المخرج عبداللطيف كشيش يثير الحيرة في جمهور لوكارنو

”الورشة" فيلم فرنسي عن مفهوم الزمن وحياة تنبثق ببطء من بين الأنقاض

من فيلم "حبي: أنشودة ثانية" في مهرجان لوكارنو (ملف الفيلم)

ملخص

فيلمان جديدان في مهرجان لوكارنو السينمائي (6 - 16 أغسطس / آب)، الأول للمخرج الفرنسي التونسي عبداللطيف كشيش وعنوانه "مكتوب، حبّي: أنشودة ثانية"، والثاني فرنسي بعنوان "الورشة" لجان ستيفان برون.

في هذه الدورة الـ78 من مهرجان لوكارنو كان فيلم الفرنسي التونسي عبداللطيف كشيش "مكتوب، حبّي: أنشودة ثانية" (المعروض في المسابقة الرسمية) من أكثر الأعمال التي أثارت الحماسة والانتظار، بعد انقطاع لمخرجه عن السينما استمر أكثر من ستة أعوام. حتى إن بعض الصحف الفرنسية سارعت في إرسال مراسلين إلى لوكارنو لمشاهدة الفيلم حصراً.

فهذا الفصل الثالث من السلسلة التي كثيراً ما أثارت البلبلة والسخط والدهشة أيضاً، حمل معه كثيراً من التوقعات، لا سيما بعدما ترك المخرج جماهيره في حال من الحيرة منذ عرض الجزء الثاني منها في مهرجان "كان" عام 2019، الذي لم يحظَ بفرصة العرض في الصالات، بسبب مشكلات تتعلق بقضايا حقوق الملكية الفكرية.

على مدى أعوام ترسخت صورة عبداللطيف كشيش بصفته مخرجاً مثيراً للجدال، خصوصاً بعد الانتقادات التي واجهها إثر فوز فيلمه "حياة أديل بـ“سعفة“ كان عام 2013، فهو اتهم بسوء معاملة فريق العمل والممثّلات، مما ترك أثراً في سمعته الفنية. بيد أن عرضه الأخير في لوكارنو جاء ليعيد صياغة الصورة، في الأقل من ناحية فنية العمل، على رغم غياب المخرج عن الحفلة نتيجة تعرضه لأزمة صحية قبل بضعة أشهر. 

عندما بدأ العرض، بدا واضحاً أن الفيلم يحمل بصمات كشيش المميزة من جهة الحسّ البصري والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، لكنه في الوقت نفسه تخلّى عن الأسلوب الشعري والتمدد الزمني الذي كان جزءاً من سحر الجزءين السابقين. جاءت الحبكة أكثر وضوحاً وتقليديةً، عصية على الإقناع بسبب التوالي المتسارع للأحداث، مما جعل الشخصيات تبدو غير مكتملة، والفيلم بأكلمه يشكو نقصاناً. تتصدّر الفيلم شخصية أمين (شاهين بومدين)، الشاب العائد إلى مدينته سيت في جنوب فرنسا، بعد دراسة السينما. ولكن في هذا الفصل، فقد هذا الدور عمقه، وتحول إلى حامل حبكة. هذا التغيير المفاجئ جعل الفيلم يبدو كـ"بازل" فيه كثير من القطع الضائعة، وكأن التدخلات الفنية والإنتاجية قد حدّت من حرية كشيش وأضعفت رؤيته.

المتابعون والنقاد لم يغفلوا الظروف الإنتاجية المحيطة بالفيلم التي رفعت كثيراً من علامات الاستفهام حول درجة الاستقلالية الإبداعية التي تمتع بها خلال إنجاز عمله، وخصوصاً المونتاج. هذه الأسئلة تعكس تحديات الفنان في مواجهة ضغوط السوق والمجتمع والسياسة والأخلاق، لا سيما عندما يتداخل العمل الفني مع تجربة شخصية عميقة.

على رغم هذا كله، يبقى من الصعب إنكار بريق كشيش الفني في لقطات عدة، تلك اللحظات التي تشكّل جوهر سينما مخرج كبير يعرف كيف يؤطّر الحياة في أبهى تجلياتها، على أمل أن يُعاد له الاعتبار في المستقبل، عبر اشتغال جديد على المونتاج انطلاقاً من المواد المصورة، يرفع الستارة عن بانوراما أدق وأكثر اتساعاً لرؤية المخرج الحقيقية.

"الورشة" الترميمية

في مقابل الخيبة النسبية التي صنعها فيلم كشيش، لم نتوقع أن يسحرنا وثائقي بعنوان ”الورشة“ (معروض خارج المسابقة) للفرنسي جان ستيفان برون إلى هذا الحد. لم أكن قد خططتُ لمشاهدته قبل الوصول إلى لوكارنو، لكنّ فسحة من الفراغ الزمني بين فيلمين هي التي دفعتني إلى دخول الصالة، ويا للمفاجأة: عمل بصري دقيق ومتين، يتجاوز مجرد التوثيق لمشروع ترميم قصر سينمائي قديم. يقدم الفيلم رؤية شاملة عن صناعة الترفيه من الداخل، وما تنطوي عليها من صراعات بنيوية، وتفاصيل صغيرة، تُخفي وراءها منظومة كاملة من القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نقطة الانطلاق هي مشروع ترميم "باتيه بالاس"، وهو مجمّع سينمائي عريق في باريس، يعود بناؤه إلى نحو قرن من الزمن، وخضع لعملية تجديد شاملة بدأت عام 2019 واختُتمت في صيف 2024. لكن الكاميرا لا تكتفي بتوثيق هذا التحول العمراني، إنما تتوغّل في تفاصيله، من أصغر القرارات المعمارية إلى أكبرها. وكل هذا وسط ضغوط زمنية خانقة. هذا التتبع الحيّ واليومي يجعل من "الورشة" عملاً يلامس مفهوم الزمن، كأننا نشاهد حياة تنبثق ببطء من بين الأنقاض. فمع كل مسمار يُدَّق، وكلّ قطعة تُركَّب، يولد عالم جديد، عالم متخيل وواقعي في آن واحد، يرتبط مباشرة بذاكرة السينما وتجربتها كمكان لقاء ومشاهدة جماعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واحدة من أبرز نقاط القوة في الفيلم هي القدرة على جعل المجمّع السينمائي استعارة لمجتمع بأكمله، بحيث تتداخل العلاقات المهنية والتراتبية الإدارية والدوافع الاقتصادية. التعقيد في تنظيم العمل، التفاوت في المسؤوليات، الاهتمام بالتسويق، وحتى السيكولوجيا المرتبطة بتجربة المتفرج، كلها تنسرب إلى نسيج الفيلم من دون أن يُنطق بها بالضرورة. الحضور اللافت لشخصيتين مثل رنزو بيانو، المهندس الإيطالي الشهير المكلف المشروع (من أعماله: مركز بومبيدو في باريس)، وجيروم سيدو، مالك "باتيه"، يضفي على الفيلم طبقة إضافية من الحيوية. فعلى رغم عمرهما المتقدّم، يبدوان في قلب المشروع، يتحكمان في التفاصيل، يعلّقان، يمازحان، ويثيران النقاشات، ممّا يخلق لحظات إنسانية مفاجئة في خضم عمل يكشف تدرجاً عن وجهه الرأسمالي الذي لا يتناقض مع قيم المتعة والترفيه. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما