ملخص
في قمة غير تقليدية، نال بوتين كل ما أراده من ترمب دون مقابل، بينما خرجت أوكرانيا خاوية الوفاض، وسط إشارات مقلقة إلى احتمال تقديم تنازلات مستقبلية، مما يثير مخاوف جدية في شأن مصيرها وعلاقة الغرب بالعدوان الروسي.
حين ذهبت للنوم ليلة الجمعة الماضي، كان دونالد ترمب وفلاديمير بوتين استهلا للتو قمتهما في أنكوراج، ألاسكا ولم يكن لدي أي فكرة عما ينتظرني عندما أفتح عيوني صباحاً.
فهل سأطالع خبر إبرام الثنائي اتفاق سلام شامل على حساب أوكرانيا، أم ينتظرني مشهد ترمب الحانق وهو يعلن عن عقوبات ضخمة لمعاقبة روسيا على تصلب بوتين - مما هدد به قبل أسبوعين من إعلانه عن اجتماع القمة؟ أو سأجد نتيجة مختلفة تندرج بين هذين الأمرين؟ بدلاً من كل هذا، استيقظنا لنجد... حسناً، ما الذي وجدناه تحديداً؟
قيل كلام كثير طبعاً عن كل تلك الأجواء التي لا معنى لها، والمتعلقة بالتقدم والمحادثات البناءة والفهم الأعمق للوضع، لكن فلنكن واضحين في شأن العنوان الرئيس: لم يجر التوصل إلى اتفاق. لن تتوقف الصواريخ، ولا المسيرات الهجومية، وما من جدول زمني لوقف إطلاق النار، حسب معلوماتنا.
قد يكون من الأهم أن نلتفت إلى غاية كل من الرجلين من وراء الاجتماع. فلنبدأ بالزعيم الروسي. ما سعى إليه فلاديمير بوتين هو تفادي خطر العقوبات الأميركية، وكسب المزيد من الوقت لمواصلة خوض حربه على أوكرانيا، وكسر عزلته وعزلة روسيا الدبلوماسية، وفصل الولايات المتحدة عن سائر الدول الأوروبية وإقصاء زيلينسكي قدر الإمكان عن كل هذا وتملق مضيفه، دونالد ترمب.
لا يفوتكم، عند قراءة هذه السلسلة من النقاط، أن تضعوا إشارة "منجز" عند المرور بكل واحدة منها. فالرجل طالب متفوق، وقد قيم ترمب اللقاء بإعطائه علامة كاملة. وهو فعلاً اجتماع ناجح تماماً بالنسبة إلى بوتين. فقد عاد إلى موسكو بعدما حقق كل غاياته.
لا عقوبات جديدة. فقد فرش دونالد ترمب السجادة الحمراء وصفق لبوتين حرفياً قبل أن يصافحه بمودة. جرى الاجتماع على أرض أميركية، على بعد آلاف الأميال من مكان وجود كل القادة الأوروبيين. فكروا فحسب أنه لو عقدت القمة في أوروبا، كان بوتين ليعتقل على خلفية مزاعم ارتكابه جرائم حرب بعد ما فعله في أوكرانيا وعقب صدور مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة الجنائية الدولية.
وفقاً لتصريحات الكرملين، لم يجر التباحث في عقد أية مفاوضات ثلاثية بحضور الرئيس الأوكراني. وعندما يكون التملق هو النية، فهل من مجاملة تتفوق على قول بوتين لترمب بأن هذه الحرب ما كانت لتنشب أبداً لو كان هو الرئيس عام 2022؟ لقد طربت أذناه.
فلننقل انتباهنا إلى الطرف المقابل: ما الذي أراده ترمب؟ أفصح ترمب بصورة صريحة ومتكررة عن غايته. فغايته الصادقة التي يستحق عليها الثناء، هي إنهاء القتل. يريد وقفاً لإطلاق النار. ويريد سلاماً دائماً. ومن هذه الناحية، علينا أن نقول إنه خرج من الاجتماع خالي الوفاض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما أراد ترمب تحقيق هدفين آخرين من خلال استضافة هذا الاجتماع. أولهما تركيز اهتمام الإعلام العالمي عليه لمدة 24 ساعة - وهو ما نجح فيه. أراهن أن مطار أنكوراج لم ير ازدحاماً كهذا اليوم منذ أعوام، فيما حطت فرق التصوير من كل العالم فيه.
والهدف الثاني الذي يحرك ترمب هو إعادة ضبط العلاقات مع بوتين بالتحديد - وهو مرتبط ببوتين. هناك نظريات شائعة تقول إن الروس، ولا بد أنهم يمتلكون مواد تدين ترمب (تعرف بالروسي بالـ"كومبرومات" kompromat)، لتفسير التودد المبالغ به في حديثه عن الرئيس الروسي، لكنني لم أقتنع يوماً بهذه النظريات.
شرح لي شخص لا بد أنه يعرف ترمب من كثب الأمور بطريقة مختلفة. قال لي هذا الشخص إن ما عليك فهمه في شأن ترمب هو أنه صنيعة الحقبة التي نشأ فيها: الحرب الباردة والستار الحديدي ومخزون الأسلحة النووية. لدى ترمب رعب من حرب نووية تفني البشرية، مثلنا جميعاً. ومع أن روسيا لا تشكل سوى اثنين في المئة من الناتج المحلي العالمي الإجمالي (مقابل 25 في المئة للولايات المتحدة)، فهي تملك 45 في المئة من مخزون الأسلحة النووية في العالم. ولذلك يعتقد ترمب أنه من الضروري إقامة علاقات جيدة مع روسيا، خوفاً مما قد يحدث لو اختلف الوضع.
على رغم أن هذه النظرية مثيرة للاهتمام فإنها لا تبرر التغاضي عن أكبر عدوان تشهده أوروبا ضد دولة ذات سيادة منذ الحرب العالمية الثانية. كما أن امتلاك السلاح النووي لا يمنح أي أحد قوة مطلقة. لم يشكل امتلاك بريطانيا سلاحاً نووياً أي ردع عندما اختار الأرجنتينيون أن يجتاحوا جزر فوكلاند عام 1982.
في مقابلة مع شون هانيتي على "فوكس نيوز" بعد الاجتماع، تكلم ترمب بصورة مبهمة لكنه أعطى الانطباع بأن الكرة الآن في ملعب زيلينسكي، كما لو أن ترمب اقتنع بحجج بوتين وبات على عاتق الرئيس الأوكراني الآن أن يقدم تنازلات.
ربما في المستقبل يُتوصل إلى اتفاق يمنح روسيا بعض الأراضي مقابل ضمانات أمنية لأوكرانيا لكن لا أحد يعلم كيف ستكون صورة هذا الاتفاق.
مهما قلنا في وصف غرابة هذا الوضع برمته، يصعب أن نفيه حقه. عادة، في عالم السياسة بين القوى العظمى، لا يجتمع الطرفان الرئيسان قبل أن يتوصل المساعدون والمسؤولون عن التحضيرات الأولية والمحامون الحكوميون والمستشارون السياسيون وخبراء الأمن القومي إلى مسودة بيان، بعد كثير من الأخذ والرد حول الفواصل والنقط. ثم ينعقد اجتماع القمة الذي يعد مناسبة لالتقاط الصور يستخدم فيها كل زعيم قلمه الحبر ويمهر الوثيقة بتوقيعه.
لكن أسلوب ترمب مختلف. فمبعوثه الخاص ستيف ويتكوف (الرجل الذي لا يملك أية خبرة دبلوماسية على الإطلاق) الذي مهد لهذا الاجتماع، كان يزور موسكو برفقة صديقته الحميمية فحسب. وفي اجتماعاته داخل الكرملين، جلس وحده مقابل بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ومستشاره الرئيس يوري أوشاكوف وقوتهم المجتمعة. لم يرافق ويتكوف أي أحد يدون الملاحظات ولا مستشارون واعتمد كلياً على مترجم الكرملين.
هل ينبغي لأوكرانيا أن تقلق؟ وهل على أوروبا أن تشعر بالقلق من شكل تنظيم هذا الاجتماع وما تكشف عنه؟ سيكون ضرباً من الجنون التام ألا تقلقا.
سوف يتجه زيلينسكي مرة أخرى إلى العاصمة واشنطن يوم غد الإثنين (الـ18 من أغسطس ’آب‘ الجاري)، حيث يلتقي مرة أخرى بترمب في البيت الأبيض. فكيف للأمور أن تأخذ أي منحى أسوأ يا ترى؟
© The Independent