ملخص
يقيناً أن محفوظ بلغ هنا في "كفاح طيبة" أقصى مستويات دنوه من الواقع المصري الراهن مما جعله يفضل العودة للغوص في هذا الواقع مباشرة، عبر أدب اكتملت له أدواته عبر اكتمال أسلوبه. ومن هنا تلك القفزة التي سيحققها في العام التالي بولوجه العالم الواقعي وبالتحديد من مدخل قاهري معاصر مثلته "القاهرة الجديدة".
في واحد من تلك الحوارات الطويلة التي أجراها معه صديقه الناقد الكبير رجاء النقاش، وضمها إلى كتابه الذي أصدره بعد رحيل الكاتب الكبير بعنوان "صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"، والتي جاء بعضها، لا سيما خلال المراحل الأخيرة من حياة نجيب محفوظ ومساره الأدبي، أشبه باعترافات تكشف عن أجوبة سكت عنها الكاتب الكبير طويلاً على رغم أن قراءه ومحبيه دائماً ما أمطروه بقدر كبير من الأسئلة بصددها. ومن ذلك على سبيل المثال كونه بدأ مساره الأدبي روائياً بإصدار تلك الثلاثية الفرعونية المؤلفة من "عبث الأقدار"، و"رادوبيس"، و"كفاح طيبة"، التي أصدرها خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1939-1945) في وقت كان هو نفسه يتوقع أن تكون بداياته في هذا الصنف الأدبي (الرواية) الذي فضله وسيفضله على الدوام على توجهاته الفلسفية الأولى ككاتب، أن تكون تلك البدايات منتمية إلى ما سيسمى الواقعية الاجتماعية على الطريقة المحفوظية بدءاً على أية حال من روايته الكبيرة الأولى "فضيحة في القاهرة" التي سيتحول عنوانها لاحقاً إلى "القاهرة الجديدة". فمنذ اهتماماته الأولى بالكتابة الروائية كان محفوظ يتوقع أن يسير في اختياراته صوب الحارة المصرية وأهلها ومشكلاتها وأجوائها التي كثيراً ما فتنته منذ وعيه على هذا العالم، وهو ابن الحارة وتحديداً المناطق المحيطة بسيدنا الحسين غير بعيد من رديفتها منطقة السيدة زينب. ولكن الذي حدث هو أن محفوظ، وكما روى لرجاء النقاش، وجد نفسه ينساق وراء ظرف يبدو اليوم منسياً بعض الشيء لكن الإضاءة عليه وبلسان محفوظ نفسه، تكتسي طابعاً مثيراً للدهشة حقاً.
الكاتب يحلل دوافعه
وهكذا يقول محفوظ لمحاوره، إنه مع تأثره بأجواء حي الحسين القديم، والحارة الشعبية "كان من المفترض أن تكون بداياتي الروائية في أعمال مثل زقاق المدق، وخان الخليلي، وغيرهما من الأعمال التي تتناول الحارة المصرية"، غير أن ما حدث كما يؤكد محفوظ كان شيئاً آخر، إذ "اعتمدت في رواياتي الأولى على موضوعات من التاريخ الفرعوني في تلك المرحلة التي يسميها النقاد المرحلة الفرعونية". وكانت تلك في رأي كاتبنا "مفارقة لها أسبابها"، وها هو يعدد هنا تلك الأسباب ومنها "زياراتي المتكررة للمتحف المصري مع أمي في طفولتي ومشاهداتي المستمرة للآثار الفرعونية" في المقام الأول، ثم يعد ذلك "تأثري بالروائي الإنجليزي المعروف والتر سكوت وطريقته واهتمامه بالرواية التاريخية". غير أن محفوظ يستدرك هنا ليفيدنا بأن "السبب الأكثر أهمية كان قوة التيار الفرعوني الذي غزا مصر في عشرينيات القرن الـ20 خصوصاً بعد اكتشاف قبر توت عنخ آمون. وكان ذلك حدثاً ضخماً لا يقدر ضخامته إلا الذين عاشوا تلك الفترة. وربما لا يعرفه الجيل الحالي إلا من خلال الكتب".
ويفسر محفوظ هذا الأمر قائلاً "لقد كان المد الفرعوني على أشده في مستهل القرن الـ20، وكان له أنصاره الذين يدافعون عنه باستماتة. وأذكر أنه بعد صدور قانون 1923 وإجراء انتخابات برلمانية نادى أصحاب المد الفرعوني بقيادة عثمان محرم بتصميم قاعة البرلمان على الطراز الفرعوني، فاصطدموا مع أنصار التيار الإسلامي في وقت لم يكن فيه لأنصار التيار القومي العروبي صوت مسموع. وانتصر التيار الفرعوني وأقيم البهو في البرلمان فرعونياً كما لا تزال حاله حتى اليوم".
من زمن الفراعنة إلى الراهن
وهنا يستطرد محفوظ موضحاً أن تأثير المد الفرعوني امتد يومها إلى المجالات كافة بخاصة في الشعر والغناء "وبتأثير هذا المد كتبت رواياتي الأولى بعدما قرأت كل ما هو متاح ويتعلق بالتاريخ الفرعوني، مع نية صادقة في كتابة سلسلة روايات تشمل مراحل التاريخ الفرعوني". ولكن يمكننا هنا أن نتساءل إذ نستعرض تلك "الثلاثية الفرعونية" عما إذا كنا حقاً أمام أدب تاريخي فرعوني؟ فالحقيقة أن تحليلاً وافياً لمواضيع تلك الروايات، بصرف النظر عن بيئتها وأجوائها التي تنتمي حقاً إلى العالم الفرعوني، يمكننا من أن نكتشف نزعة معاصرة تكاد تجعل من مصر الحديثة في صراعاتها، لا سيما ضد الاحتلال الإنجليزي موضوعها الأساس. ولئن كانت "عبث الأقدار" وهي أول رواية نشرها محفوظ وكان ذلك في المجلة الجديدة التي يديرها أستاذه سلامة موسى، تتناول حقاً موضوعاً أقرب إلى أن يكون فرعونياً خالصاً يدور في وسط العائلة الفرعونية المالكة والصراعات في داخلها من حول بناء هرم الفرعون خوفو كمظهر من المظاهر التي تمكن الباني الأول من السيطرة على الحكم، فإن الرواية التالية والأكثر أهمية، شكلاً ومضموناً وهي بالطبع "رادوبيس" تبدو أكثر دنواً من السياسات الكبرى بل حتى من قضايا قد تبدو لنا اليوم شديدة المعاصرة بل الحداثة، لا سيما إن نظرنا إلى الرواية من منظور نسوي بدءاً من تسمية محفوظ روايته باسم امرأة من دون أن تكون هنا رواية غرامية، كعادة الروايات التي تحمل اسم امرأة في عنوانها، ولكن كذلك من منطلق الصراعات التي يخوضها السياسيون ضد السلطات الدينية، خصوصاً عبر شخصية الفرعون الذي يغرم في الرواية، كما جاءت على أية حال، في كتب التاريخ الفرعوني القديم، الواصلة إلى حد الزعم بأن "رادوبيس"، وهي مجرد غانية قد بنت بدورها هرماً، يغرم بـ"رادوبيس" وسط صراعات تحرر وطني، ووسط أجواء احتفل فيها الكاتب بدور الفنون والآداب في وسم تلك الصراعات وتوجيهها، مما يفتح الباب واسعاً لتأويلات تتعلق بنظرة محفوظ إلى مصر المعاصرة من خلال استعادة الزمن الفرعوني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع ضد الهكسوس/الإنجليز
والحقيقة أن عصرية "رادوبيس" وحداثة بل راهنية القضايا التي تطرحها، تفتح الباب واسعاً على الرواية الثالثة من روايات "الثلاثية الفرعونية"، وهي "كفاح طيبة" على رغم أن محفوظ نفسه أخبر رجاء النقاش بأنه بعدما انتهى من كتابتها "شعرت بفتور شديد وتراجع في حماستي لذلك التيار، ووجدت نفسي متجهاً إلى مصر المعاصرة، وللحارة المصرية بكل ما فيها من مشكلات وقضايا وهموم ونماذج إنسانية". والحقيقة أننا هنا نسمح لأنفسنا ولو لمرة نادرة، أن نخالف أستاذنا نجيب محفوظ في هذا التأكيد إذ نجده سلبياً ومخطئاً، عن تعمد من الكاتب الكبير على أية حال، في حق الثلاثية الفرعونية وبخاصة في حق "كفاح طيبة"، ذلك لأن القارئ المتمعن فيها، وعلى رغم طغيان المناخات الفرعونية على كل صفحة من صفحاتها ومشهد من مشاهدها، تكاد تكون مقدمة، وإن غارقة في السياسة، لمجمل الروايات الواقعية، روايات الحارة بحسب محفوظ نفسه. ففي البداية لا بد للقارئ أن يدرك أن محفوظ إذ يستطرد في الحديث عن كفاح الشعب المصري البسيط في محاربة المحتلين الهكسوس، الذين غزوا مصر ذات حقبة فرعونية، لا يبتعد كثيراً عن توصيف كفاح الشعب المصري خلال النصف الأول من القرن الـ20 ضد المحتلين الإنجليز وسعيه لطردهم خارج الوطن، مع عبرة تكاد تكون وعظية، وربما يوتوبية عند أواسط أربعينيات القرن الـ20، فحواها أنه تماماً، كما تمكن الشعب المصري من طرد الهكسوس في تلك الأزمنة البعيدة، لن يكون من المستحيل عليه أن يطرد الهكسوس الجدد (الإنجليز طبعاً) من دياره اليوم، بيد أن رواية "كفاح طيبة" لم تقل هذا على مثل هذه المباشرة، بل باللجوء إلى مناخ روائي يختلط فيه الخاص بالعام وحياة الشعب في مجتمعاته الواعية النشطة، بحياة القصور، وحكايات العيش اليوم بحكايات الحب. ومنها بخاصة حكاية شغف الفرعون أحمس الذي في وقت يخوض حربه ضد محتلي بلده وأعدائها لا يمكنه أن يتناسى حبه الشغوف للأميرة الهكسوسية ابنة قائد الأعداء، التي منذ اللحظة التي لمحها فيها قادمة على ظهر السفينة الفرعونية بعدما قدمت للمشاركة في غزو أرض وطنه، أغرم بها ليعيش تمزقاً لا سابق له في وجوده بين عقله وقلبه، بين حبه واندفاعاته التحررية.
يقيناً أن محفوظ بلغ هنا في "كفاح طيبة" أقصى مستويات دنوه من الواقع المصري الراهن مما جعله يفضل العودة للغوص في هذا الواقع مباشرة، عبر أدب اكتملت له أدواته عبر اكتمال أسلوبه. ومن هنا تلك القفزة التي سيحققها في العام التالي بولوجه العالم الواقعي وبالتحديد من مدخل قاهري معاصر مثلته "القاهرة الجديدة".