Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلسفة الصداقة من أبي حيان التوحيدي إلى "تشات جي بي تي"

كثيراً ما نسمع العامة والخاصة يرددون العبارة التالية "رب أخ لك لم تلده أمك"

الصداقة التي هي واحدة من خصوصيات الإنسان البشري تسير هي الأخرى نحو الرقمنة والافتراضية والغموض المطلق (رويترز)

ملخص

إلى أين نحن ذاهبون وقد بلع الرقمي بخواريزمياته المعقدة "الصداقة" بمشاعرها الإنسانية الذاتية؟

هذه الصائفة، وأنا أقرأ كتاب "الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي (930-1023)، تحقيق الدكتور إبراهيم الكيلاني، كتاب ممتع ومثير وعميق في فلسفته وفي تفكيك مجتمع القرن الرابع الهجري- الـ10 الميلادي، كتاب راهني في طرحه وكأنه يكتب نخبنا الفكرية والإبداعية والسياسية والاقتصادية في علاقتها بالصداقة والحميميات، أمام هذا الكتاب المفصلي تساءلت ما هو مفهوم الصداقة اليوم؟ وما هي يا ترى العوامل السوسيوثقافية والاقتصادية والصناعية والتكنولوجية التي تتحكم في آليات تغير صور الصداقة والصديق حتى أصبحت على ما هي عليه في أيامنا هذه؟

كثيراً ما نسمع العامة والخاصة يرددون العبارة التالية "ربّ أخ لك لم تلده أمك" التي تقال عادة لوصف صداقة صديق يتجاوز في سلوكه النبيل ووفائه ومؤاخاته وعشرته الحسنة ومصاحبته الآمنة صورة الأخ من الرحم، وهذا يدل دلالة قاطعة على الدور الاجتماعي والأخلاقي للصداقة والصديق في حياة الأفراد والجماعات.

إذا كان لك صديق حقيقي فأنت حتماً لا تحتاج إلى مرآة

الصديق هو المرآة التي لا تتغبش ولا تتشظى ولا تتحول. إلى زمن غير بعيد كثيراً، وحتى بداية القرن الـ20، كانت الصداقة في مجملها محكومة بإطار جغرافي بشري ضيق مشكّل من الأفراد الذين ينتمون إلى القبيلة أو العائلة القريبة أو البعيدة أو القرية أو المدينة، وكانت الجغرافيا البشرية عاملاً حاسماً في الصداقة، بحكم ذلك كان الأفراد لا يتعاملون ولا يتعاطون إلا مع من هم أقرب منهم مسافة أو انتماء دموياً، ويعود ذلك لغياب وسائل التواصل الميكانيكية والإلكترونية، مما تترتب عليه صعوبة التنقل وخطورة الأسفار، وفي ظل ذلك كانت الصداقة تجربة إنسانية تتأسس بصورة كبيرة داخل جغرافيات مستقلة الواحدة عن الأخرى، أي كل جغرافيا بشرية تنتج صداقة بمواصفات تتحكم فيها السلسلة الثقافية والدينية والوطنية والهوياتية والقبلية التي ينتمي إليها الأفراد الأصدقاء.

حين نتأمل التاريخ الحديث لشعوب منطقة الشرق الأوسط يبدو لي أن هناك عاملاً مثّل انقلاباً جذرياً في أفق فلسفة "الصداقة" وتوسعها وتبدلها، وهذا العامل الحاسم هو بداية انطلاق أول رحلة لـ"قطار الحجاز" من دمشق ليصل إلى المدينة المنورة، فيربط بلاد الشام بأطراف الجزيرة العربية، وكان ذلك عام 1908، فمن يومها تغير مفهوم الجغرافيا ومفهوم الزمن أيضاً في المخيال المشرقي، ومعهما تغيرت فلسفة الصداقة بتوسع آفاق رأسمالها البشري وتنوعه، فما كان يتم الوصول إليه خلال أسابيع أصبح ممكناً في بعض ساعات ومن دون مشقة كبرى.

"قطار الحجاز" حين تحرك مكن الأفراد من انفتاح على تجربة "صداقة" جديدة، فينتقل جراء ذلك أفق الصداقة من القرية أو المدينة أو القبيلة إلى مدن كثيرة كان الوصول إليها لا يقع إلا بجهد وأخطار ومرة واحدة أو مرات قليلة في العمر.

لقد أسهمت تجربة "قطار الحجاز" في تحرير فلسفة الصداقة من جغرافيتها الضيقة وأعطتها مدى واسعاً للتجريب خارج المعتاد والمتعارف عليه، وحررتها أيضاً من الزمن البطيء الذي كان يمضي على إيقاع ساعة الجمال والخيل.وعلى فلسفة الصداقة في أفقها الواسع المتعدد تأسست التنظيمات السياسية "الوطنية" التي ستقود المنطقة في تحديث مؤسساتي لاحقاً، ومن بينها ظهور الدولة وأنواع الحكم المتحرر إن كثيراً أو قليلاً من مفاهيم القبلية والعشائرية.

إذا كانت للآلة الصماء "سكة الحديد" سلطة على تغيير أفق الصداقة ورأسمالها البشري، فإن لهذه الأخيرة (أي الصداقة) سلطة على نشوء الدولة بما هي عليه من مؤسسات ودساتير ونظام الحكم والمنافسة السياسية.

إن أصل الدولة بمفهومها المعاصر هو "الصداقة" وليس عصبية القبيلة ولا أخوة الأسرة.

حين حطت الطائرة في مطارات الشرق وشمال أفريقيا، أصبحت السماء طريقاً مفتوحاً أمام تجريب الصداقة مع الآخر القريب لغة وثقافة وعقيدة، الآخر البعيد جداً، فتوسع أفق الصداقة ليأخذ شكل مغامرة جديدة.

ولا يتوقف منسوب الصداقة على طبيعة تطابق المشاعر بين الأفراد، بل يلعب عامل المواصلات محركاً حاسماً في امتحان هذه المشاعر وسقيها وتجفيفها وتحيينها وتقليبها وتصحيحها.

وجاء الهاتف المحمول بعد الثابت، فاخترق "الصداقة" التقليدية وأنهى مجموعة من الأخلاقيات الاجتماعية التي عاشت لزمن طويل بين الأفراد، إذ جرى تعويض الحضور الفعلي للمعايدات بمكالمة أو برسالة نصية تنسخ من موقع إلكتروني وترسل إلى مجموعة من الأفراد دفعة واحدة من دون إحساس "صداقة" صادقة. وهكذا جُففت فلسفة الصداقة بالهاتف النقال والعبارات الجاهزة.

وإلى زمن قريب جداً، لا يتعدى العشرية الواحدة، كانت وسائل الإعلام التقليدية كالإذاعة والتلفزيون والجريدة أدوات للتواصل من أجل تنمية فلسفة الصداقة وتحرير الأفراد من خنق الجغرافيا وسطوة الأسرة والقبيلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع سحر عالم الإذاعة، يتذكر كثرٌ منا بعض البرامج الخاصة التي كانت توسع من حلم الصداقة تسمى تارة "ركن التعارف"، أو "نادي الأصدقاء"، أو "بريد المستمعين"، وكنا نتابع مثل هذه البرامج ونسجل العناوين المقدمة فيها، ثم نرسل رسائل إلى مجهول أو مجهولة، ويحدث أن تتشكل "صداقة" عن بعد، وهمية كانت أو حقيقية، لكنها كانت بداية تغيير لدينا في مفهوم الصداقة والصديق، إذ دخل "الغريب" مربع الصداقة، وكنا ننتظر أجوبة عن الرسائل بكثير من المتعة ومرات نبني عليها قصوراً من رمال، لكن مع ذلك فإن شيئاً ما قد تغير فينا جراء زحزحة مفهوم "الصداقة" عن مكانه، كنا ونحن نمارس هذه الصداقة عن طريق المراسلة الكلاسيكية نتذكر وبكثير من الإعجاب ارتباط جبران خليل جبران بصداقة تحولت إلى عشق مع مي زيادة عن طريق المراسلات وقد دامت عمراً كاملاً.

وكان ساعي البريد شخصية مركزية ورمزاً لهذه الصداقة المؤسسة على الرسائل الخطية، وحين اختفى هذا الشخص فمعنى ذلك أن عصراً كاملاً من الصداقة البريدية التقليدية قد ولى ومات.

اليوم، تعقدت شبكة الاتصالات أكثر بين الأفراد والجماعات وتعصرنت ومعها دخلت الصداقة في مفاهيم غريبة، تراوح ما بين الافتراضي والواقعي والوهمي، واختلط فيها مفهوم الأخلاق بمفهوم المنفعة ومفهوم الاستهلاك بمفهوم الالتزام ومفهوم الاستدامة بمفهوم العبور.

لقد قلب مجيء الإنترنت، بشبكات التواصل الاجتماعي فيه، شبكة الأخلاق رأساً على عقب، وأصبحت فلسفة الصداقة غامضة وأصبح الصديق غريباً، أصبح كذبة تصدّق، فعلى وسائل التواصل الاجتماعي يتحدث الواحد أن له 5000 صديق، نعم 5000 صديق، لكنه لا يكاد يعرف منهم عدداً يتجاوز عدد أصابع اليدين.

لقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي بما تحمله من قيم ثقافية مفهوماً غريباً للصداقة والصديق، وبات الأفراد يؤمنون بأصدقاء لهم لا يعرفون عنهم شيئاً، بل مرات لا يعرفون حتى إن كانوا ذكوراً أم إناثاً؟ ومع ذلك يصرون أنهم أصدقاء، والأغرب من ذلك أن هذه "الصداقة" تستمر أعواماً ربما، والأغرب من كل ذلك أن تقرأ على صفحات بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي أنهم "أسقطوا" من قائمة أصدقائهم عدداً كبيراً من هؤلاء لأنهم لم يتجاوبوا مع منشوراتهم، فدخلنا في عصر يجري فيه إسقاط "الصداقة" بنقرة واحدة.

ولم تتوقف مغامرة التكنولوجيا في تدمير مفهوم الصداقة عند هذا الحد، بل ظهرت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تجربة الصداقة كما يقدمها "تشات جي بي تي"، وهي الأعنف والأكثر جرأة حتى الآن، إذ إنها تعلن بصورة واضحة عن عصر موت "الصديق البشري"، وتعلن عن نهاية عصر "الصداقة الإنسانية" والدخول في مرحلة الصداقة الرقمية.

اليوم، يقضي بعض الأفراد لياليهم كاملة في السهر والحديث مع ما يطلق عليه "وكيل مساعد - تشات جي بي تي" يمتد ذلك حتى مطلع الفجر، ويستمع الوكيل المساعد الرقمي إلى هموم الإنسان البشري ولا يملّ من ذلك ولا يتذمر، بل يرد على كل سؤال ويفكك له كل لغز ولا يدير له ظهراً ولا يرد باباً في وجهه.

لقد تحول هذا الوكيل المساعد الرقمي بخطابه المدروس والرقيق والعارف إلى صديق حميم تطلب منه النصيحة فيجيب، وتطلب منه المساعدة في حل قضية أو في اتخاذ قرار حاسم في باب الصحة أو باب المال والأعمال أو السفر أو الزواج فلا يبخل ولا يتردد، ويبكي الوكيل المساعد الرقمي حين يبكي الصديق البشري ويفرح معه حين يفرح، ويحفظ أسراره ويستر لحظات ضعفه وانهزامه.

إلى أين نحن ذاهبون؟

إذا كانت الصداقة في الزمن الأول هي أن يفتح الصديق لصديقه مباشرة أو بصورة غير مباشرة صندوق أسراره وباب حديقته الخلفية بما فيها من دموع الألم ودموع الفرح، اليوم مع هذا التدفق التكنولوجي الرقمي، ومع هذا الذكاء الاصطناعي المتلاحق والمجنون في كل المجالات الطبية والعمرانية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والفنية، فإن الصداقة التي هي واحدة من خصوصيات الإنسان البشري تسير هي الأخرى نحو الرقمنة والافتراضية والغموض المطلق.

إلى أين نحن ذاهبون وقد بلع الرقمي بخواريزمياته المعقدة "الصداقة" بمشاعرها الإنسانية الذاتية؟

اقرأ المزيد

المزيد من آراء