ملخص
الصراع الدائر في داخل إيران حالياً يبرز أولاً أن المطالب الإصلاحية سببها الرئيس الحفاظ على بقاء النظام وتفادي آلية الزناد، وأي تصعيد مع إسرائيل وتعقد في مسار العلاقات مع الأوروبيين وواشنطن، بينما المتشددون يعتبرون أن إيران هوجمت قبل يومين من الجولة السادسة للمفاوضات وأنه ليس هناك ضمانات لأمن إيران سوى بناء قوة الردع ورفع كلفة أي هجوم عليها، وأنه لا دبلوماسية من دون ميدان.
على رغم التصنيف الشائع للتيارات السياسية في داخل إيران ما بين "المتشددين" و"الإصلاحيين" والمعتدلين، مما عمق جدلية هل السياسة الخارجية لطهران أيديولوجية أم براغماتية، إلا أنه من المعروف أن خلف هذا التنوع الظاهري ثوابت ومبادئ أيديولوجية لا يحاد عنها، فعلى رغم تعظيم التيارات السياسية للنظام الإيراني للاعتبارات الأيديولوجية لكنه في الوقت ذاته سمح بتباين التيارات في ما يخص السياسات الداخلية والخارجية، فتظهر الخلافات حول قضايا الحجاب والحقوق والحريات والاستثمار الأجنبي والانفتاح على الغرب والعلاقة مع واشنطن، وفي حين اعتاد النظام الإيراني توظيف تلك التباينات على حسب علاقته بالغرب، ومدى التوتر وبناء عليه، يجري تصدير المشهد الإصلاحي أو الراديكالي، ونجد أن الخلاف هذه المرة مختلف.
وعلى وقع التهديدات الأميركية والإسرائيلية بإمكان توجيه ضربة عسكرية جديدة لإيران ما لم تمتثل للمفاوضات، فضلاً عن التهديدات الأوروبية بتفعيل آلية الزناد ما لم ترد طهران بنهاية أغسطس (آب) الجاري على عودة مفتشي "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وضرورة حسم الملف النووي قبيل أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، خرجت دعوات تطالب النظام الإيراني بإجراء تغييرات ضرورية للحفاظ على أمن وسلامة إيران وبقاء النظام، وخرج بيان "جبهة الإصلاح" محذراً من اقتراب موعد تفعيل آلية الزناد، ومطالباً بالتعليق الطوعي للتخصيب وقبول المراقبة الشاملة من قبل "الوكالة".
وفي المقابل يهاجم المتشددون تلك التوجهات معتبرين أن "جبهة الإصلاح" وتصريحات وجواد ظريف والرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني لم تدافع إلا عن المطالب الأميركية، وأنهم لم يفهموا قوة الردع الإيرانية ولم يشهدوا نتائج سياسة الضغط الأقصى، معتبرين أن الحكومات "الإصلاحية" التي رفعت شعار رفع جميع العقوبات خلال حكومة روحاني ووعدت بالازدهار الاقتصادي لم تقدم جديداً سوى الاستسلام لواشنطن وإسرائيل، ولأن "الإصلاحيين" لم يتعلموا من تجربتي ليبيا وأوكرانيا، ففي ليبيا لم يسقط معمر القذافي بعد تسليم ترسانته النووية والكيماوية، بل واجه تدخل الـ "ناتو" عسكرياً، أما أوكرانيا فبعد تسليمها ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم لروسيا في مقابل ضمانات أمنية، أصبحت هي الأخرى ضحية الحرب والتفكك الإقليمي.
أما وزير الخارجية السابق جواد ظريف فقد جاء في مقالة له في مجلة "فورن بوليسي" بمبادرة دبلوماسية جريئة وتحول تاريخي لإيران والمنطقة، من نموذج تهديد متجذر إلى نموذج إمكانات تمكينية، بما في ذلك توسيع العلاقات مع الجيران ودول الجنوب العالمي، وشراكة إقليمية جديدة بين دول غرب آسيا، وتجديد الحوار مع أوروبا والولايات المتحدة.
وهاجم المتشددون في داخل إيران ظريف لأنه اعتبر أن النموذج التحولي يجب أن يبدأ داخل إيران ويمتد إلى جيرانها، فاعتبروا أن هذا نوع من لوم الذات، إذ يرجع جميع مشكلات إيران من العقوبات والحصار للسياسة الداخلية، وفي نهاية المطاف تصل إيران إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسود الجدل هنا حول أسباب التحديات التي تواجه إيران، فيرى المتشددون أن خطأ ما يسمى بـ "الإصلاحيين" أنهم يرجعون تحديات إيران مع الغرب لقضايا مثل برنامجها النووي ودعمها "محور المقاومة" أو تطوير الصواريخ، وأنه من خلال تقديم تنازلات للغرب يمكن توقف الضغط على إيران، ومن ثم يعتقد المتشددون أن مشكلة خصوم إيران ليست برنامجها النووي أو الصاروخي بل موقعها الجيوسياسي كقوة في الشرق الأوسط، بفضل مواردها من الطاقة وموقعها الإستراتيجي في مضيق هرمز ونفوذها الثقافي والتاريخي.
وفي حين يدافع "الإصلاحيون" عن تلك المطالب معتبرين أنها من أجل مصلحة البلاد ورفاهيتها، ومصلحة إيران والجمهورية الإسلامية والنظام، ومصلحة بقائها ومستقبلها، يعتبر المتشددون أنها شق للإجماع الوطني والوحدة الوطنية التي سادت إيران في أعقاب حرب الـ 12 يوماً، بل وُصف "الإصلاحيون" بأنهم "زيلينسكيون محليون"، وأنه في أعقاب التخلي عن ثوابت السياسات الإيرانية سيسلكون طريق أوكرانيا أمام روسيا وزيلينسكي أمام دونالد ترمب، وأن التركيز على التغيير الداخلي أولاً يثبت أنهم لا يدركون الواقع الإقليمي والدولي المحيط بإيران.
إن الصراع الدائر في داخل إيران حالياً يبرز أولاً أن المطالب الإصلاحية سببها الرئيس الحفاظ على بقاء النظام وتفادي آلية الزناد، وأي تصعيد مع إسرائيل وتعقد في مسار العلاقات مع الأوروبيين وواشنطن، بينما يعتبر المتشددون أن إيران هوجمت قبل يومين من الجولة السادسة للمفاوضات، وأنه ليس هناك ضمانات لأمن إيران سوى بناء قوة الردع ورفع كلفة أي هجوم عليها، وأنه لا دبلوماسية من دون ميدان.
وربما تنبع أهمية الجدل بين "الإصلاحيين" و"المتشددين" في إلقاء الضوء على الأسئلة الأهم التي نفكر فيها منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحتى الآن، فهل بعد الضعف الإستراتيجي الذي لحق بإيران وأذرعها على يد إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، وصولاً إلى الضربتين الأميركية والإسرائيلية، ستعمل طهران على تغيير إستراتيجيتها الإقليمية التي انتهجتها منذ عقود، بخاصة في ظل تصاعد المشروع الإسرائيلي الذي يغير المعادلات الإقليمية منذ عام 2023؟ وهل لا يزال أمام إيران فرص جديدة لاستئناف تطلعاتها الإقليمية؟ وهل يمكنها أن تعاود الاستثمار في بناء شبكة الوكلاء الإقليميين أم أن ثمة تغييراً ستشهده السياسات الإقليمية لإيران، على المستوى الإستراتيجي؟ وهل ستكون موقتة ترتبط بفترتي إدارة ترمب وحكومة نتنياهو؟ وهل حديث "الإصلاحيين" عن البدء بالتغيير من داخل إيران يعني إدراك التهديدات ومن ثم شكل نمط العلاقات، الصداقات منها والعداوات والمصالح؟ وهل تفتح الدعوات الإصلاحية ونماذج التحول ذلك المسار أمام الغرب لخوض محاولات جدية لتغيير النظام الإيراني؟