Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفيلسوف الألماني هومبولدت عن التأريخ والوعي والمخيلة

وزير وليبرالي تابع الثورة الفرنسية وأسس جامعة برلين وأسهم في علوم الألسنية لكنه لم ينل حظاً من الشهرة

فلهلم فون هومبولدت في مكتبه (1767 – 1835) (الموسوعة البريطانية)

ملخص

كان الفيلسوف الألماني فلهلم فون هومبولدت ليبرالياً حقيقياً مما حرمه من مناصب وزارية أطلقته ثم أبعد عنها. كذلك كان من أوائل العلماء الأوروبيين الذين جمعوا علوم اللغات الجانبية وعلم الاجتماع. وقد تطول هذه اللائحة إلى حد التساؤل الجدي عما منع فون هومبولدت من أن يحظى بشهرة كبيرة

غريب أمر الفيلسوف والمؤرخ وعالم اللغة الألماني فلهلم فون هومبولدت. فهو عاش في قلب العصر التنويري الألماني، وكان شديد القرب من الفكر الذي بنى صرح الثورة الفرنسية، بل إنه حين اندلعت هذه الثورة بادر إلى التوجه إلى باريس من فوره على رغم كل الأخطار القاتلة، فدرس الثورة من كثب كما درس علاقة الثورة بالشعب الثائر وبالفكر الذي كان المفكرون الأوروبيون والألمان منهم بخاصة يقولون إنه كان المحرك الأساس للثورة، بل كتب دراسات كثيرة وتقارير أكثر عدداً عن كل ذلك. صحيح أن ما كتبه لم يكن عدوانياً أو حتى مفرطاً في حماسته السلبية أو الإيجابية، لكنه لم يلق كثيراً من الترحيب في أي مكان. ومن ثم لم تنشر دراسته الأساسية حول تلك المرحلة بعنوان "محاولة في حدود عمل الدولة" إلا في عام 1851 أي بعد كتابتها بنحو... 60 عاماً، وبعد رحيله بـ... 25 عاماً. ومع ذلك كان معروفاً بقربه الشديد من غوته وشيلر نجمي زمنهما اللامعين، كذلك كان مؤسس جامعة برلين ومؤلف عدد كبير من الكتب التي درس فيها، وكان الدافع وراء ضمها عدداً من كبار المفكرين أساتذة فيها.

كان ليبرالياً حقيقياً مما حرمه من مناصب وزارية أطلقته ثم أبعد عنها. كذلك كان من أوائل العلماء الأوروبيين الذين جمعوا علوم اللغات الجانبية وعلم الاجتماع. وقد تطول هذه اللائحة إلى حد التساؤل الجدي عما منع فون هومبولدت من أن يحظى بشهرة كبيرة، وقد نكتفي منها بكتاب له قرظه غوته حقاً لكن الجمهور العريض لم يبال حتى بتقريظ غوته.

انطلاقة من غوته

ونتحدث هنا عن واحد من أشهر كتب فون هومبولدت على أية حال، وهو المعنون "مهمة المؤرخ" والصادر عام 1922 بعد زمن من إلقاء كاتبه له على شكل محاضرات في أكاديمية العلوم البروسية قبل ذلك بعام. ولقد كان منطلق هذا الكتاب دراسة تمهيدية وضعها الكاتب نفسه حول ما سماه "قوانين النوع الملحمي" التي صاغها أصلاً انطلاقاً من دراسته التي حظيت هي بشهرة كبيرة من حول نص "هرمان ودوروثيا" لغوته الذي كما أشرنا، كان من أقرب أصدقائه.

وفي تلك المجموعة من المحاضرات التي لم يخف غوته أبداً إعجابه بها على أية حال، حرص فون هومبولدت على أن يصنف القوانين المذكورة تبعاً لما اعتبرها تراتبيتها من ناحية الأهمية، ليستخلص من خلالها، ليس فقط أهمية التراتبية في مجال البحث الأدبي والفكري، بل في مجال البحث التاريخي كما سنرى. وأورد فون هومبولدت سلسلة الأهميات في ترتيب يعطي المكانة الأولى لبديهية الحساسية، يليها تتابع تطور العمل ومن بعده في المكانة الثالثة، وحدة العمل ثم تالياً لها التوازن بين شتى العناصر، والشمولية التي ينبغي أن يتسم العمل بها، وأخيراً في المكانة السادسة هناك بالتأكيد الحقيقة القائمة على التجربة.

وهنا بعدما يعارض الكاتب ما يسميه الحقيقة التاريخية للعمل بوصفها ناتجة من التوافق مع الطبيعة بوصفه – أي التوافق - نتاجاً للحقيقة الطبيعية المرصودة، يميز بين تلك الحقيقة التاريخية والحقيقة الأخرى التي تنتمي إلى حقيقة مختلفة تنتج من المخيلة، فيصل إلى التمييز بين ثلاثة أنماط من الحقيقة الشاعرية: الحقيقة المخيالية والحقيقة المثالية والحقيقة البراغماتية (التجريبية) وهي حقائق تتوازى معها ثلاثة أنواع من الكتابة الابداعية: الأسطورية والشاعرية التراجيدية والتاريخية.

بين الواقع والأخلاق

وهنا يفيدنا المفكر بأن التاريخ يرفض القبول بكل ما لا ينضوي تحت القوانين الطبيعية والأخلاقية الخاصة بالطبيعة. ومع ذلك ينبهنا، "يتعين علينا أن نقر بأن المتفرد والاستثنائي لا يمكنهما معاً إلا أن يكونا متوافقين مع المجرى العام للتاريخ كما لطبيعة الجنس البشري". وانطلاقاً من هذه الحقيقة يتعين علينا أن نعرف دائماً أن المخيلة لا بد منها حتى بالنسبة إلى المؤرخ الذي يشكل بالنسبة إليه بعدا التحليل والتوليف هذان (المنطقي والحدسي معاً) ما يمكننا اعتباره عنصري تكثيف شديدي الاختلاف عن بعضهما بعضاً. ومن ثم نتوصل إلى أن "الإدراك الملموس من ناحية والحدس الغرائبي من ناحية ثانية، يفعلان معاً وبالقوة نفسها بالنسبة إلى ما ينبغي اعتباره إدراكا عاماً. فإذا تبين أن واحداً من البعدين يبدو مرجحاً على الثاني يكون معنى ذلك أننا إما في صدد ملحمة وإما في صدد عمل تاريخي".

ويخبرنا هومبولدت هنا أن البعد الأخير سيعني بالضرورة أن الأرجحية هي لملكة المعرفة والرصد الواقعي، مما يعني أن هاتين الملكتين تضعاننا على الفور أمام عمل تاريخي، ولا سيما حين تتعلقان بالحديث عما يعبر عن شؤون العالم الأخلاقي، أما حين تتعلقان بالعالم الطبيعي فإنهما تعبران عن توصيف للطبيعة. والحقيقة أن هذه الأفكار التي لا يمكن الزعم أنها من ابتكار هومبولدت على أية حال، بل ترسخت لدى مدارس مثالية من قبله تمتد من أفلاطون إلى ليبنتز، يمكن العثور عليها ولو متناثرة في زمن هومبولدت في كتابات وتأكيدات من توقيع هردر وشيلر وحتى غوته من أساطين مدرسة فايمار... ولسوف نجدها سائدة لاحقاً لدى مدارس في كتابة التاريخ ترسخت في أزمنة تالية.

في العمل السياسي

أما بالنسبة إلى هومبولدت فإنها شكلت عماد فلسفته التاريخية التي نجدها راسخة في بعض أهم مؤلفاته ومنها بخاصة رسالته المعروفة بعنوان "رسالة غوته حول المسرح الفرنسي" التي كتبها خلال ثلاثة أعوام أمضاها في باريس مقرباً من مدام دي ستايل، وكانت تلك الإقامة ضمن إطار جولة طويلة قام بها إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ليشغل في مرحلة منها وظيفة سفير لبلاده البروسية لدى الكرسي الرسولي.

والحقيقة أن تلك المهمة الرسمية كانت واحدة من مهام سياسية ودبلوماسية كثيرة قام بها فون هومبولدت (1767 – 1835) خلال حياته المتقلبة التي أوصلته إلى الوزارة غير مرة قاطعة بين الحين والآخر مجرى عمله البحثي والتعليمي بصورة لم يفته أن يشكو منها في لقاءاته مع خلانه، ولا سيما مع الشاعر شيلر الذي كان صديقه المفضل ودائماً ما كان ينصحه بالتفرغ للتأليف والعمل الجامعي فلا يرتدع.

ومن المعروف أن فون هومبولدت ولد في بوتسدام ومات غير بعيد من برلين، ودرس الفلسفة في هذه الأخيرة كما في غوتنغن ويينا. وفي هذه الأخيرة ارتبط بصداقة عمر، وتجانس فكري إلى حد ما مع شيلر. ولقد كان هذا الأخير من نصحه إزاء الحماسة التي أبداها للثورة الفرنسية حين اندلعت بالتوجه إلى فرنسا ورصد ما يحدث فيها. ولقد قادته صداقته مع شيلر واهتمامه اللافت بالثورة الفرنسية ثم زواجه من كارولين فون دارشوين إلى الارتباط بصداقة مع كل من غوته وهايني وتورنر كما مع جاكوبي الذي من المعروف أنه مارس عليه تأثيراً فكرياً كبيراً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رائد في الأنثربولوجيا

مع حلول القرن الـ19 وبفعل مكانته العائلية والاجتماعية التي أضحت كبيرة، كما بفعل صداقاته ناهيك بالسمعة الليبرالية التي أسبغتها عليه كتاباته حول الثورة الفرنسية وتعليقاته على ما سادها من إرهاب وعنف، بدأت في حياة هومبولدت مرحلة جديدة راحت الاهتمامات البحثية تتضاءل فيها لمصلحة هموم دبلوماسية وسياسية. وهكذا نراه إبان تأسيسه جامعة برلين عام 1810 إثر عودته من جولته الأوروبية، يعين وزيراً للتربية ثم يرسل سفيراً إلى فيينا ليلعب دوراً فائق الأهمية في مؤتمر هذه الأخيرة. وهو عين عام 1819 وزيراً للداخلية لكن آراءه الليبرالية سرعان ما أبعدته عن ذلك المنصب... بل جعلته يتفرغ هذه المرة لكتاباته الفكرية وبحوثه العلمية، ومن ذلك كتابه المهم والتأسيسي (الذي لم ينشر مع ذلك إلا بعد رحيله) حول "لغة شعب كاو في جزيرة جاوا"، ولكن بخاصة كتابه الآخر الذي لا يقل أهمية وتأسيسية بعنوان "أبحاث حول سكان إسبانيا البدائيين اعتماداً على اللغة الباسكية" (1821) الذي تلاه كتاب ثالث له في المجال نفسه "رسالة في أشكال القواعد اللغوية عامة وفي اللغة الصينية بخاصة" (نشر في باريس عام 1827).

ويرى المؤرخون أن هذه الكتب الثلاثة الأخيرة قد أتاحت لفون هومبولدت، وربما من دون أن يعي هو نفسه ذلك، أن يعتبر من رواد الألسنية الحديثة. وأفتوا بأنه كان "واحداً من المحللين الأوائل للثقافة الحديثة بالمعنى الذي يعطى اليوم لهذه الكلمة في الأنثربولوجيا".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة