لم تظهر روسيا على هذه الصورة من الضخامة في الوعي القومي منذ منتصف الثمانينات، ومنذ كوابيس فيلم "ثريدز"[شبه وثائقي كارثي عن عالم ما بعد انفجار نووي] وفيلم "عندما تهب الريح" [وهو فيلم رسوم متحركة عن الحياة خلال حرب نووية]. فمِن تسميم عائلة سكريبال، مروراً بتدفق سيل أموال الأوليغارشيين غير المشروعة إلى العاصمة لندن، وصولاً إلى التدخل في التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتهاءً بردّنا المتنازع على الهجمات بالأسلحة الكيماوية في سوريا، تقتضي الحاجة فهم هذا الخطر. ولبّى هذه الحاجة مؤلفُ هذا الكتاب الآسر، مارك غاليوتي، على أحسن وجه، وهو باحثٌ رفيعٌ في معهد العلاقات الدولية في براغ.
سيكون من العسير عليك أن تجد دليلاً شاملاً يتناول تلاقي الدولة مع الجريمة المنظمة في روسيا أكثر من هذا الكتاب الذي يؤرخ للسرقات الضاربة الجذور في العالم السفليّ في مرحلة ما قبل الثورة. ومن رجل عصابات القرن الثامن عشر سيّىء السمعة فانكا كين الى القراصنة المأجورين في القرن الحادي والعشرين، يتقصى غاليوتي كيفيّة استبطان الدولة هؤلاء المجرمين واستغلالها خدماتهم في "حربها الهجينة" على الغرب.
فعوض تأسيس "دولة مافيا" بسيطة، صارت الحكومة الروسية في عهد بوتين "أكبر عصابة في المدينة"، وأصبحت شبكة عصابات الظل الخاصة بها أكثر ظهوراً في مدننا وقرانا.
وعلى خلاف دورها يداً يمنى للدولة، أبصرت عصابة "اللصوص القانونيين" في الغولاغ [معسكرات الاعتقال] في عهد ستالين حيث جمعت الكراهية للحكومة وعملاءها بين أعضائها. وساهم الفساد وبروز السوق السوداء في عهد بريجنيف ورفع القيود عن قوى السوق والسقوط الفوضوي للدولة السوفياتية في عهدي غورباتشوف ويلتسين، في توفير الظروف الملائمة لتعزز الجريمة المنظمة مكانتها في العصر الحديث.
ووفقاً لغاليوتي، فإن "بيئة النظام الإجرامي الثري والمعقد" في روسيا بلغ مبلغاً يعصى معه التفريق بين أصحاب البزات من "رجال العصابات- المقاولين" والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الحقيقيين، فجميعهم يد واحدة في عالم الجريمة العميقة/الدولة العميقة في السعي وراء الثروة والسلطة السياسية.
ومقابل غضّ السلطات الطرف عن هذه الجرائم، يحتفظ النظام "بحق دعوة أي فرد أو منظمة للمساهمة بدعم أجندة الكرملين". وخير مثال على غموض الحدود بين السياسة والأعمال والجريمة، هو إشارة بوتين الى قتل أعداء الدولة، بـ "العمليات المبللّة"، فتبنّيه عامية العصابات تعزز صورته الإجراميّة السيّئة.
وكتب غاليوتي: "في منعطف القرن الحادي والعشرين، عقد مؤسسو الدولة اللصوص مساومةً مع رجال الدولة المجرمين، والتقوا في منتصف الطريق." ويستنتج أنّ الدولة استبطنت العالم السفلي وفي إمكانها أن تحرّك مقاليده كما تشاء.
وخلص غاليوتي الى أن روسيا ستصلح نفسها من الداخل، على يد الأشخاص العاديين الذين هم أوّل وأسوأ ضحايا هذه الثقافة- وخلاصته هذه مدار سؤال ونقاشٍ بعد إعادة انتخاب بوتين. ولكن هل تكون العقوبات الغربية كافية؟ فأذرعة بوتين تلتف حول جيوب أعضاء حزب المحافظين وفي خدمتها أكثر المجرمين الإلكترونيين براعةً في العالم. وهذه مسألة مقلقة.
© The Independent