أثار الاجتياح التركي في الأراضي السوريَّة مؤخراً مشاعر وأفكاراً تستحق التأمل، فالمشرق العربي يتشكل من قوميات في مقدمتها العرب والأكراد، ويستأثر إقليم الشام الكبير والعراق بالحجم الأكبر من أكراد المنطقة، والقوميَّة الكرديَّة قوميَّة مظلومة عبر التاريخ فرغم أنها قدَّمت نماذج باهرة في التاريخ العربي بدءاً من صلاح الدين محرر القدس في المرة الأولى وصولاً إلى أحمد شوقي أمير الشعراء وما قبلهما وما بعدهما من رموز أثرت في مسار الحياة في المنطقة فإن هذه القوميَّة تعاني تاريخياً من ضغوط إيرانيَّة وعراقيَّة، تركيَّة وسوريَّة، فضلاً عن الدور الروسي فيها، ولذلك فهي قوميَّة محاصرة تعرَّضت تاريخياً إلى ضغوط كثيرة.
ولا شكّ أن ما يحاوله أردوغان -رئيس تركيا الحالي- من خنق هذه القوميَّة على الأراضي السوريَّة إنما يصل إلى تداعيات أكثر خطورة تبدأ من موقف عربي تجاه الغزو التركي ولا تنتهي بحرب الإبادة التي يمارسها الأتراك والتي تعودوها مع الأرمن عام 1915، ومع العرب بعد ذلك في مناسبات كثيرة حتى سقوط الدولة العثمانيَّة، لكن المتأمل صراع القوميات في الشرق الأوسط سوف يكتشف أن إيران وتركيا ومعهما إسرائيل هي القوى الثلاث غير العربيَّة التي تحاول تفتيت المنطقة وتقسيم عناصرها في العقود الأخيرة، ونحن نعرف ماذا جرى للعراق وماذا جرى لسوريا وما سوف تفعله تركيا حالياً من محاولة تمزيق الدولة السوريَّة والعبث بوحدتها الإقليميَّة تحت شعار مطاردة الأكراد.
والقوميَّة الكرديَّة هي قوميَّة ذات بأس شديد، وليست شيئاً مهملاً أو منكوراً عبر التاريخ، فهم أصحاب قوات "الباشمرجة" في العراق الذين يقفون بالمرصاد للتمدد التركي الذي يرى أن مدناً مثل "كركوك" بل و"الموصل" هي تاريخياً مدن تركيَّة، وما أسهل تزييف التاريخ! وها هو أردوغان -السلطان العثماني الجديد- يزحف بقواته ويضرب بطيرانه القرى العزلاء في سوريا.
إننا أمام مشهد دموي يستدعي الماضي المقيت للسيطرة التركيَّة على المنطقة، ويقدم نموذجاً من العدوان السافر على أراض عربيَّة، ورغم استخفاف أردوغان بالموقف العربي عموماً وبالمصري خصوصاً فإنه يدرك أن ما يفعله هو مغامرة قد تقترب كثيراً من مغامرة صدام حسين في الكويت مع الفارق بين الحالتين، لكن مفهوم الاجتياح هو قاسم مشترك بينهما، والآن دعني أبسّط الأمر في عددٍ من المحاور:
أولاً: إن ما نعرفه من تاريخ ممتد عدة قرون للاستعمار التركي يتفق تماماً مع ما فعله أردوغان، فهو تاريخٌ حافلٌ بالعدوان والظلم والقهر لم تبرأ منه دولة عربيَّة أو في منطقة البلقان أو في أواسط آسيا وشرق أوروبا، فالعنف التركي ظاهرة تاريخيَّة معروفة، لكن الممارسات الممتدة التي وصلت إلى القرن الحادي والعشرين هي محل تساؤل، فكيف يمكن أن نتحمّل حالياً تبعات مثل هذه التصرفات التي تخرج على حدود الشرعيَّة الدوليَّة، وتعود بنا إلى شريعة الغاب؟!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً: إن القوميَّة الكرديَّة قوميَّة مجاورة تعايشت مع العرب عبر القرون، واندمجت معهم تحت مظلة الإسلام، لذلك فإن حرب الإبادة عليها تذكّرنا بحرب إبادة مثيلة، مارسها الأتراك ضد الأرمن، ونحن العرب نرفض التقسيم العرقي في المنطقة أو التعامل وفقاً له، وكما استقبلنا الأرمن وسمحنا باندماجهم في المجتمعات العربيَّة فإننا نرفض في الوقت ذاته الممارسات التركيَّة التي تجري ضد الأكراد في سوريا أو في تركيا، ففي الحالتين هي نزعة عرقيَّة تعبر عن التعصب القومي، ولا تعطي إشارة إيجابيَّة للاستقرار والأمن في المنطقة، كذلك فإن الوضع في سوريا المهددة بالجماعات الإرهابيَّة -وفي مقدمتها بقايا داعش- لا تتحمل في هذه الظروف مثل هذا الاجتياح التركي، كما أن تلك الدولة العربيَّة الكبيرة التي تعاني الظروف الصعبة التي تمر بها، وتتطلع نحو استقرار محتمل لا يجب أن تعود إلى الوراء بعمل عسكري تركي أخرق يؤدي إلى مزيدٍ من التوتر، ويؤجل الحل السلمي الذي كادت تتوافق عليه القوى السوريَّة تحت مسمى قرار مجلس الأمن 2254، ويجب أن يدرك الأتراك أن تنظيم داعش الذي ساعده أردوغان في مرحلة معينة ما زالت بقاياه قائمة، وتنتظر العودة إلى ساحة العمل من خلال الصراعات المتضاربة والحروب الشاملة.
ثالثاً: إن سوريا التي كانت عشيَّة أحداث الربيع العربي دولة مستقرة سياسياً واقتصادياً هي اليوم كيانٌ ممزقٌ، بل ويسعى جيرانها وفي مقدمتهم الأتراك إلى مزيد من التمزيق، وهم لا يدركون مخاطر ما يفعلونه، كما أنني أرى فيما فعله الأتراك داخل الأراضي السوريَّة نوعاً من الاستهانة بمبادئ الشرعيَّة وضرورة احترام الجوار القومي، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخليَّة، فضلاً عن أنها لحظة مناسبة لاستنزاف داعش وملحقاته في إطار الصراع العربي مع إيران تارة، ومع إسرائيل تارة أخرى، وطوبى لمن يدفع أكثر.
رابعاً: عندما وقعت الواقعة واقتحمت جيوش أردوغان حدود سوريا فإننا وجدنا أنفسنا أمام مبرر عربي قوي لدحض هذه السياسات العدوانيَّة ورفضها، خصوصاً أن حجم العداء الذي يحيط بمصر يتأكد يوماً بعد يوم من خلال الممارسات التركيَّة وبعض القوى الخليجيَّة على نحو يؤدي إلى شيوع الفوضى، ولقد انتصر العرب لأشقائهم في مصر كما فعل المصريون معهم من قبل ذلك أننا نشعر أن وقوع الظلم على فرد أو قوميَّة هو أمر ينذر بعناصر الانفجار ولا يفيد بالضرورة بل ويفتح المجال لتدخلات أجنبيَّة تحمل رياحاً فاسدة.
خامساً: إن الإدانة الأوروبيَّة -والموقف المحايد أميركياً- تشير في مجملها إلى أن أردوغان فقد مصداقيته تماماً، وأصبح على الطريق نحو السقوط، فهو يتحرّك الآن في اتجاهات متضاربة، كما أنه بارعٌ في اكتساب الأعداء وفقدان الأصدقاء وتغييرهم يوماً بعد يوم، ونحن لا ننسى الوجود المؤثر في تلك المواجهة الداميَّة، التي تبدو للوهلة الأولى مجرد نظرة عدوانيَّة، والواقع أن الأمر أعمق من ذلك، وأبعد كما أن تداعياته لن تتوقف، فضلاً عن الآثار الكارثيَّة لمحاولة انتهاك سيادة دولة لها أهميتها في الشرق الأوسط، ولا شك أن إسرائيل تقبل بهذا الذي حدث وتفرك يديها في سعادة قائلة إن العرب والمسلمين يحققون لها كل يوم -بسياساتهم وتصرفاتهم- ما هو مقبول لها، ومطلوب منها، كما أن إسرائيل تستثمر كل حدث في المنطقة لخدمة أهدافها وتحقيق أغراضها، وهي التي غرست روح العنصريَّة في المنطقة، وزرعت أسباب العنف ودوافع التعصب وثقافة الكراهيَّة.