العقوبات الأميركية ضد تركيا تجري في مسارات عدّة، لكن يبدو أن إدارة الرئيس دونالد ترمب ستكون أسرعها باتجاه التطبيق. إذ أعلنت وزارة الخزانة الأميركية الإثنين أنّ الرئيس دونالد ترمب فرض عقوبات على تركيا تشمل حتى الآن وزارتين وثلاثة وزراء، وذلك بهدف إرغام أنقرة على أن "تنهي فوراً هجومها" العسكري على الفصائل الكردية في شمال شرق سوريا.
وقالت الوزارة في بيان إنّ العقوبات شملت وزارتي الدفاع والطاقة ووزراء الطاقة والدفاع والداخلية الذين باتوا ممنوعين من دخول الولايات المتحدة ومن إجراء أي معاملة مالية دولية بالدولار الأميركي، كما باتت أموالهم في الولايات المتحدة، إن وجدت، مجمّدة.
وكان ترمب، أعلن في بيان الاثنين، أنه سيصدر قريباً أمراً تنفيذياً بفرض عقوبات على مسؤولين أتراك حاليين وسابقين، على أن توقف وزارة التجارة الأميركية محادثات بشأن اتفاق تجاري مع تركيا تبلغ قيمته مئة مليار دولار، وتزيد الرسوم على صادرات الصلب التركية إلى 50 في المئة. وأكد الرئيس الأميركي أنه مستعد لتدمير اقتصاد أنقرة إذا واصل قادتها سلوك هذا الطريق الخطر، مشيراً إلى أن القوات الأميركية المنسحبة من سوريا سيُعاد نشرها وستظل في المنطقة لمراقبة الوضع.
وقال إنه على تركيا عدم تهديد الإنجازات الأميركية ضد تنظيم "داعش" في سوريا، معتبراً أن الهجوم التركي يهدد السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.
وكان وزير الخزانة الأميركي ستيفن مينوتشن صرّح أنّ العقوبات جاهزة الآن ولا تحتاج إلاّ إلى توقيع الرئيس كي تُفعّل، فالوضع يتطور والإدارة الأميركية تراقبه بدقة، حسب تعبيره.
في الوقت ذاته، بدا أن مجلسي الشيوخ والنواب يعملان بسرعة على إنهاء مشروعي قانون للعقوبات ضد تركيا، يُتوقع أن يُدمجا في قانون واحد والتصويت عليه في أسرع وقت، بعدما أعلن السيناتور ليندسي غراهام، المقرب من الرئيس ترمب، أنه تحدث مع رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي حول "الغزو التركي" لشمال سوريا وأنها أكدت دعمها العقوبات، مشددةً على أهمية عامل الوقت وسرعة التنفيذ لردع تركيا.
غراهام الذي سبق أن انتقد ترمب بشدة على قراره سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، غرد على "تويتر" أنه سيعمل مع أعضاء الحزب الجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب للتحرك بسرعة، بينما غرد ترمب أيضاً، قائلاً إنّ عقوبات ضخمة في طريقها إلى تركيا وإن كان في الوقت ذاته، حاول تبرير قراره السابق بالانسحاب، موضحاً أنّ الولايات المتحدة لن تدخل في حرب مع أناس يحاربون بعضهم بعضاً منذ 200 عام، ومشيراً إلى أن الأكراد ربّما يُطلقون سراح المعتقلين في سجونهم لتوريط الأميركيين في الحرب.
ويوم الجمعة الماضي، قدّم إليوت إنغل، النائب الديمقراطي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب مشروع قانون آخر بالاشتراك مع النائب الجمهوري وعضو اللجنة مايك ماكول، يقضي بفرض عقوبات على المسؤولين الأتراك المنخرطين في العمليتين السياسية والعسكرية في شمال سوريا. كما يفرض عقوبات على البنوك الداعمة للقطاع العسكري التركي، ويمنع تسليح القوات التركية داخل سوريا ويطالب إدارة ترمب بفرض عقوبات على تركيا لشرائها منظومة صواريخ "إس 400" من روسيا.
عقوبات ترمب
وفقاً لمسؤول بارز في الإدارة الأميركية، فإن المجموعة الأولى من العقوبات التي عكفت وزارات الخزانة والدفاع والخارجية على وضعها خلال اليومين الماضيين، تستهدف عدداً كبيراً من الأشخاص في سُلم القيادة التركية الذين يرتبطون بقرار الهجوم التركي على شمال سوريا. وأوضح مسؤول آخر في إدارة ترمب – رفض الكشف عن اسمه – أنّ العقوبات تترك الباب مفتوحاً أمام خيارات فرض عقوبات أخرى، تستهدف تصدير الأسلحة الأميركية إلى تركيا والتعاملات العسكرية وشحنات الطاقة بين الولايات المتحدة والجيش التركي.
وكان مينوتشن قد صرح لشبكة "اي بي سي" الأميركية أن العقوبات قد تبدأ صغيرة، لكنها قد تصل إلى مستويات الضغط الأقصى لاحقاً، لكنّه أوضح في تصريحات أخرى يوم الجمعة الماضي أنّ الولايات المتحدة لن تعيد تفعيل العقوبات التي نص عليها الأمر التنفيذي للرئيس ترمب عام 2018، إلاّ أنّ وزارة الخزانة لديها القدرة على إصابة الاقتصاد التركي بالشلل.
عقوبات الكونغرس
لكنّ مشروع قانون العقوبات الذي صاغه السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والسيناتور الديمقراطي كريس فان هولن منذ أيام، أكثر شمولية وقوة من عقوبات إدارة ترمب، إذ يستهدف قانون غراهام – فان هولن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ثلاثة بنود من إجمالي ثمانية، تشمل تجميد ممتلكاته في الولايات المتحدة ومنعه من السفر إلى أميركا ومطالبة الإدارة الأميركية بتقديم تقرير إلى الكونغرس حول صافي ثروة أردوغان وعدد من كبار وزرائه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأهم من ذلك أن مشروع قانون غراهام – فان هولن يحظّر بيع المعدات العسكرية الدفاعية الأميركية والخدمات والتكنولوجيا المرتبطة بها إلى القوات المسلحة التركية، كما يحظّر بيع الذخائر أو تحويلها إلى القوات المسلحة التركية، ويفرض عقوبات على الهيئات والأشخاص الذين يوفرون خدمات أو مواد أو معلومات أو تكنولوجيا من شأنها دعم إنتاج النفط والغاز الطبيعي المحلي في تركيا بغية استخدامه من قِبَل القوات المسلحة.
كما يمتد تجميد الأصول والممتلكات والحسابات الموجودة في الولايات المتحدة إلى نائب الرئيس التركي ووزراء الدفاع والخارجية والخزانة والتجارة والطاقة والموارد الطبيعية. وكذلك، يفرض عقوبات على الأشخاص الأجانب الذين يبيعون أسلحة أو يوفرون دعماً مالياً أو مادياً أو تكنولوجياً للجيش التركي.
تأثير العقوبات
وفقاً لتصريحات وزير الخزانة الأميركي، فإن عقوبات اقتصادية واسعة يمكن فرضها، إذا أعاقت تركيا جهود مكافحة الإرهاب التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل الوحدات الكردية عمودها الفقري، وإذا سمحت تركيا بفرار مقاتلي تنظيم "داعش" من السجون.
وبينما تشير تقارير صحافية إلى هروب العشرات وربما مئات من مقاتلي "داعش" من السجون، إلاّ أنّ الإدارة الأميركية لم تؤكد الأمر أو تحدّد المسؤول عن فرارهم، في وقت وصف مينوتشن الوضع بـ"المعقد".
ولهذا، يعتقد مراقبون في واشنطن أن العقوبات التي ستطلقها وزارة الخزانة، ربما تكون أقل تأثيراً من مشروع القانون الذي قد يقرّه الكونغرس الأميركي خلال الأيام القليلة المقبلة، والذي وصفه هنري باركي، الخبير في شؤون الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية، بأنه "سيُحدث تأثيراً مدمراً في تركيا"، مقارنةً بالعقوبات التي يمكن أن تفرضها الإدارة الأميركية، مشيراً إلى أنها قد تتضمن عبارات تشكّل منفذاً للهرب منها.
لكن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان مشروع قانون غراهام – فان هولن سيحظى بالغالبية المطلوبة في مجلسي النواب والشيوخ إذا استخدم ترمب الفيتو ضده، على اعتبار أن تعطيل الفيتو الرئاسي يتطلب موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، أي 76 عضواً من إجمالي 100 عضو.
وعلى الرغم من أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة خلال أزمة اعتقال القس الأميركي أندرو برانسون، في صيف عام 2018، حققت نجاحاً بإطلاق سراح القس، بعدما عرقلت العقوبات الاقتصاد التركي وهوت الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، إلاّ أنّ خبراء يحذّرون من أن تأثير العقوبات الاقتصادية العام الماضي جاء في وقت كان الاقتصاد التركي يعاني من ركود وعجز كبيرَيْن في الميزانية، أمّا حالياً، فالوضع مختلف، بعدما تعافى الاقتصاد نسبياً خلال الأشهر القليلة الماضية.
ومنذ بدأ الهجوم التركي على شمال سوريا، تهاوت الليرة ووصل الدولار إلى ما يقرب من ست ليرات على وقع مخاوف المستثمرين من مخاطر زيادة العجز في الميزانية وزيادة الاقتراض وتباطؤ السياحة. لكن الخطر الأكبر يتمثل في شكل العقوبات الأميركية التي ستُفرض على تركيا، وما إذا كانت شاملة ومدمرة أو تدريجية وتحذيرية.
عناد أردوغان
يكاد عددٌ كبيرٌ من المحللين السياسيين في واشنطن يتفقون على أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتّسم بالعناد، لهذا فهم لا يتوقّعون أنه سيغير موقفه، استناداً إلى الاعتقاد السائد داخل تركيا بأن المقاتلين الأكراد في سوريا الذين تعتبرهم أنقرة فرعاً من حزب العمال الكردستاني، يهددون الأمن القومي للبلاد.
وكانت وزارة الخارجية التركية هدّدت بالرد على فرض عقوبات أميركية، ما يشير إلى أن أنقرة لن ترضخ لهذه العقوبات على المدى القصير حتى تستكمل المهمة التي انطلقت من أجلها. وربما يستفيد أردوغان من الارتفاع المتوقع في وتيرة الحس الوطني داخل تركيا، المدفوع بحماية المصلحة الوطنية.
كما قد يستغل أردوغان العقوبات الأميركية في تعزيز فكرة أن شراء الصواريخ الروسية كان قراراً صحيحاً، لأن المؤسسة السياسية الأميركية عدائية وترتبط بمصالح وعلاقات مع أكراد سوريا.
ويشير آرون شتاين، مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد بحوث السياسة الخارجية في واشنطن، إلى أن اللحظة الحالية هي لحظة فشل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وأن روسيا وحكومة دمشق يمكنهما معاً وقف العملية التركية في شمال سوريا، إذا دفعا بعدد كبير من القوات إلى طول الحدود مع سوريا بعد الاتفاق مع الإدارة الذاتية في شمال سوريا التي يسيطر عليها الأكراد.
لكن آخرين يرون أن أردوغان سيسارع إلى تحقيق مكاسب على الأرض، محركاً قواته باتجاه مسافات أوسع داخل الأراضي السورية، وادعاء قتل من يصفهم بـ"الإرهابيين" قبل أن تُحدث العقوبات الأميركية والأوروبية آثارها السلبية في الاقتصاد التركي والجيش أيضاً. وبعد ذلك، يسحب قواته، في انتظار رفع العقوبات، مكتفياً بدعم القوات الموالية لتركيا على الأرض في شمال سوريا، كالجيش السوري الحر.
لكنّ فرار عناصر "داعش" من السجون وإحداث فوضى في المنطقة، وقدرة قوات سوريا الديمقراطية على التمسك بالأرض ومقاومة القوات الموالية لتركيا، ستبقى عوامل حاسمة في المشهد الذي ستتركه تركيا وراءها، بعد انسحابها من شمال سوريا، ما لا يمكن معه التنبؤ بمدى قدرة الأميركيين والأوروبيين على رفع العقوبات ضد تركيا قبل أن يعاني الشعب من آثارها.