كثيراً ما يلجأ الروائيون إلى إضاءة الحاضر من خلال الماضي، أو تصوير الواقع من خلال الغيب، أو مقاربة العلاقات الإنسانية من خلال عالم الحيوان. وهم بذلك يمارسون نوعاً من التقيّة الروائية، فيقولون ما يريدون، ويتقون شر السلطات القائمة، على أنواعها، فيصيبون عصفورين بحجر واحد. وهذا ما يفعله الروائي اليمني الغربي عمران في روايته الجديدة "حصن الزيدي" ( دار نوفل، هاشيت أنطوان)، الحائزة جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع 2019. وإذا جاز لي أن أصفها بكلمات ثلاث أقول هي رواية "الصراع على السلطة".
العالم المرجعي الذي تنطلق منه الرواية وتحيل عليه هو اليمن وما يطفو على سطحه من صراعات عنيفة، يختلط فيها القبلي والطائفي والإقطاعي والجهوي والإقليمي، ينخرط فيها فرقاء كثيرون، وتتمخّض عن مضاعفات ونتائج خطيرة على الإنسان، والمكان، والجماعة، والوطن.
يتّخذ عمران من أواخر مرحلة الإمامية الزيدية في صنعاء والاحتلال البريطاني في عدن فضاءً زمنيّاً لروايته، ويجعل من واد زراعي تسوّره التلال فضاء مكانيّاً تدور فيه الأحداث، التي يشارك فيها عدد كبير من الشخصيات، الرئيسية أو المتوسّطة أو الثانوية، سواء من موقع الفعل أو الانفعال. وبذلك، نكون إزاء شبكة روائية معقّدة تكثر فيها الخيوط السردية، وتتشابك، وتتعقد، وتقصر أو تطول، وفقاً لمشيئة الروائي ومقتضيات اللعبة الفنية.
في الحكاية، يتّخذ مرداس، شيخ الجهة الشرقية من الوادي، المقيم في حصن منيع، من حادثة مقتل ابنه عنصيف الغارق في ممارساته السلطوية وانتهاكاته الجنسية، ولجوء القاتل إلى شنهاص، شيخ الجهة الغربية من الوادي، وبتحريض من مستشاره زيد، ذريعة للانقضاض على قرى القبيلة الأخرى وضمّها إلى سلطته، بعد التنكيل بأسرة شنهاص ذكوراً وإناثاً، فتشكّل هذه الواقعة تجديداً لصراع قديم جديد، تستخدم فيه شتّى أنواع الأسلحة، المادية والقبلية والدينية والطائفية والطبقية والعنصرية، ويتمّ فيه ارتكاب شتّى الموبقات من قتل وأسر وهدم ونهب وحرق. وهو صراع داخلي على السلطة ضمن القبيلة الواحدة، وخارجي على النفوذ بين القبائل المتنازعة. وينجلي عن ضحايا كثيرة، حتى إذا ما تعب المتصارعون، يتدخّل في نهاية الرواية فريق ثالث مستخدماً أسلحة حديثة، فيحسم الصراع في مصلحة الجماعة، معلناً الانتهاء من السلالية والمذهبية والاستبداد والعمالة والكهنوت. وهي نهاية متخيّلة أقرب إلى أمنيات الكاتب منها إلى واقع الحال. غير أنّ اختفاء جمال، القائد المخلّص، وارتداء أمّه عيشة الأسود تشي بنهاية قاتمة للأحداث لا تعلنها الرواية.
هيمنة وحرب
يقود الفريق الأوّل الشيخ مرداس بمساعدة مستشاره الفقيه زيد، وتقوم سياسته على الاستبداد والهيمنة والتسلّط ومصادرة الأرزاق وقطع الأعناق والسخرة، على المستوى الداخلي، وعلى الاعتداء والحرب والقوة، على مستوى العلاقة مع القبائل الأخرى. ويعهد بتنفيذ هذه السياسة إلى ولديه الأرعنين المتهوّرين ومستشاره الماكر الذين يقومون بذلك بمعزل عن أي وازع أخلاقي أو ديني أو وطني. وإذا كانت كلمة "شيخ" تنتمي إلى الحقل المعجمي للقبيلة، وكلمة "فقيه" تنتمي إلى الحقل المعجمي للدين، فإنّ الأحداث كانت صنيعة هذا التحالف غير المقدّس بين القبيلة والطائفة، وهو تحالف مشوب بالكثير من الشكوك المتبادلة وعدم الثقة والدسّ والتآمر. فالشيخ يشكّ في نوايا المستشار "المتديّن"، وهذا الأخير يخطّط للاستيلاء على السلطة مستغلاًّ قربه من الشيخ، ومكانته الدينية المزعومة، وعلاقة المصاهرة التي تربطه به. ويتمكّن، في نهاية المطاف، من عزل الشيخ واتّهامه بالجنون واحتجازه في مكان قميء، حتى إذا ما عاد جمال، ابن الشيخ، من صنعاء، بدبّابته، يتسلّل متنكّراً بثياب امرأة ويُولّي الإدبار ليقود معركته من مكان آخر، وبالتحالف مع شهناص، عدوّ الأمس، هذه المرّة. ولئن كان من الطبيعي بمكان أن يجنح الشيخ إلى التسلّط والقوّة في ممارسة سلطته، بما ينسجم مع أدبيات السلطة، عبر التاريخ، فإنّه من غير الطبيعي أن تصدر عنه شرّ الأفكار وأبشع الأعمال، وأن يحرّض على ارتكاب شتّى أنواع الموبقات، وأن يمارس أساليب المكر والخداع والتضليل لتحقيق أهدافه. هي السلطة التي تبرّر غاية الوصول إليها جميع الوسائل.
يقود الفريق الثاني الشيخ شهناص، وهو لا يختلف عن مرداس في تفكيره القبلي ونزوعه إلى الاستبداد والاستئثار بالسلطة، ولا في الوسائل التي يستخدم لتحقيق أهدافه. ويساعده عرّام، في مرحلة معيّنة، ثم ما يلبث أن ينفضّ عنه لاكتشافه نواياه المشيخية، ما يجعل العلاقة بينهما مشوبة بالحذر وعدم الثقة كالعلاقة بين مرداس وزيد مع فارق أن عرّام يرفض الانخراط في علاقات السلطة وصراعاتها الداخلية، فيؤثر الابتعاد، والمشاركة في مقارعة الاستعمار البريطاني حتى الاستشهاد. ويساعده قارون، في المرحلة نفسها، غير أنّ حاجته للعمل تدفعه إلى الذهاب إلى عدن، حتى إذا ما عاد برفقة زهرة، زوجته، ليمارسا معاً العزف والغناء في الأماكن العامة، ويعيشا حياة الخدام، يقوم شنهاص بالقبض عليهما بذريعة انتهاكهما تعاليم الدين وإبعادهما. وتساعده عمادة، صديقته القديمة، في مرحلة لاحقة، فتشدّ أزره، وتحثّه على مقارعة زيد والاستيلاء على الحصن. غير أنّ الرياح تجري بما لا تشتهي سفن الجميع، حين يطلع جمال، ابن الشيخ المعزول، من المجهول، ويقصف بدبّابته مواقع القبائل المتصارعة، في محاولة منه لتحرير الوادي من الانقسامات المصطنعة وتوحيد البلاد. ويأتي اختفاؤه الغامض، في نهاية الرواية، وارتداء أمّه الأسود ليفتح النهاية على مصير مجهول. وبذلك، نكون إزاء مجموعة من الشخصيات الذكورية المهووسة بالسلطة، المسكونة بالانتهازية والمركنتيلية، الغاية عندها تبرّر الوسيلة، ولا تتورّع عن ارتكاب شتّى الوسائل لتحقيق هذه الغاية. تقابلها شخصيات أخرى من العامة، تلعب أدواراً هامشية في الرواية كما هي الحال في الحياة، ولا يعنيها سوى أن تعيش بكرامتها، وحين لا تتوافر لها مثل هذه العيشة تنتفض على الظلم والإذلال، غير أن النتائج لا تكون على قدر التوقّعات.
وللمرأة حضورها في الرواية، وهي تلعب أدواراً تنسجم مع المواقع التي تشغلها، وتختلف من امرأة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر. ولعلّ الموقع هو الذي يصنع الموقف في هذا الحضور، فزوجات الشيخ أو بناته يتمخّضن عن شخصيات قوية وأدوار مؤثرة في صنع القرار، بينما نساء العامّة والخدام يلعبن أدوار الضحايا المغلوبات على أمورهنّ.
مقتل الابن
وبالانتقال من التعميم إلى التخصيص، نشير إلى أنّ شبرقة، زوجة مرداس الأولى، امرأة قوية، لا تعترف بمقتل ابنها، وترفض النواح عليه وتقبّل التعازي به، وتضيق ذرعاً بتصرّفات زوجها، وتمتنع عليه وتتجاهله حين يُقدم على الزواج من امرأة ثالثة، وتحاول الانتقام منه بتجريعه السم، وحين تفشل في ذلك، تبادر هي إلى تجرّعه بكلّ رباطة جأش. وعيشة، زوجته الثانية، تتجرّأ على إنقاذ قارون من الموت بسياط ابن زوجها وزبانيته، على مرأى من الجميع، لصلة قرابة تربطها به، ما يؤدّي إلى طلاقها من الشيخ، وتتزوّج لاحقاً من زيد، مستشار زوجها وخصمه، متظاهرة بالإخلاص له، لتمهّد لعودة ابنها من صنعاء وتسلّمه مقاليد الحكم في الحصن والوادي. وفاطم، زوجة الشيخ الثالثة وابنة المستشار، تتجرّأ على التجسّس على زوجها لمصلحة أبيها، وتلعب دور الأداة للأخير، ولا تتورّع عن الخيانة الزوجية لتحقيق حلمها في الإنجاب. وشادن، ابنة الشيخ شنهاص، التي تَفقد زوجها وأولادها الثلاثة وتُفقأ عينها في الحرب التي شنّها مرداس على أبيها بتحريض من زيد، تبدي شجاعة خارقة، وحسن تصريف للأمور خلال خدمتها القسرية في الحصن، وتتدبّر المخارج المناسبة لما هي فيه، فتهرب من الحصن، وتقاتل دفاعاً عن النفس، وتردي العديد من الرجال، وتحيط بها هالة أسطورية، وتؤول في نهاية المطاف إلى الموت قتيلة، والتعلق على العمود في ساحة الحصن. على أنّ ما يجمع بين هؤلاء النسوة القويات اللواتي تتعدّد مساراتهنّ هو أنهنّ يَؤُلْنَ إلى مصائر متشابهة، فتنتهي شبرقة بتجرّع السم، وتنطوي عيشة على نفسها، ويُعثَر على فاطم ممدّدة على فراشها وقد بُقِرَ بطنها، وتُقتل شادن في ساحة المعركة.
من جهة ثانية، إنّ النساء المتحدّرات من العامّة والخدام، ممّن وقع عليهنّ ظلم الشيوخ وأعوانهم، كالمرأة العمياء وأمّ قارون وأمّ عرّام وحمامة وزهرة وغيرهنّ، فإنهنّ قاومن الظلم، كلّ على طريقتها، غير أنّ نهاياتهنّ كانت قاتمة، بدورها، وتراوحت بين الموت سوطاً أو قتلاً أو حرقاً أو جوعاً وبين النفي. وهي نهايات تتشابه مع نهايات النساء القويّات، مع فارق أنّ الأخيرات اخترنَ غالباً نهاياتهنّ بأنفسهنّ بينما الأوليات لم يكن لهنّ ترف الاختيار.
في الخطاب الروائي، يسنِد عمران عمليّة السرد إلى راوٍ عليم، وهي تقنية تناسب الرواية التاريخية، فيروح يروي الأحداث متنقّلاً بين المشاهد المختلفة التي قد تتعدّد في الصفحة الواحدة، وثمة فراغ طباعي يفصل بين مشهد وآخر، على أن التنقل قد يكون مجانياً، وقد يكون لعلاقة بين المشهدين، ما يضفي على السرد تنوّعاً مشهدياً، ويمنح النص قابليّة التحوّل إلى سيناريو للتمثيل. وفي سياق هذه العملية المركّبة، يتقن الكاتب الإمساك بخيوط السرد، ويحسن التصرّف بها، في إطار جدلية الظهور والاختفاء، وهو قد يقطع الخيط عند نقطة معيّنة، ثم يقوم بوصله لاحقاً، وعن هذا التناوب في الظهور والاختفاء أو القطع والوصل للخيوط المختلفة تتشكّل جديلة الرواية. وينجم عن هذا التناوب طغيان السرد على ما عداه، بحيث تقلّ الوقفات الوصفية إلى حد كبير، وتأتي الوقفات الحوارية مختصرة. غير أن هذا الطغيان السردي يكسر الكاتب نمطيته بالخطبة (زيد وشهناص) والرسالة (مرداس وجمال) والحكاية (المرأة العجوز العمياء)، فتشكل هذه الأنواع وقفات تخفف من تدفق السرد، وتريح القارئ إلى حد معين. هذه العمليّات تتمّ بلغة روائية رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسّطة، تتوخّى الوضوح بعيداً من الغرق في وحول البلاغة والإنشاء، ما يجعل عملية القراءة ميسّرة، ويجعل الرواية جديرة بالقراءة.