في كل عام، وبالتزامن مع الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل للآدب، تقيم ألمانيا عُرساً سنوياً للكتاب والثقافة. يبدأ هذا العرُس الاحتفالي بالافتتاح الرسمي لمعرض فرانكفورت للكتاب يوم الثلاثاء، قبل أن يفتح المعرض أبوابه للناشرين والمتخصصين في صناعة الكتاب حتى يوم الجمعة، وفي يومي السبت والأحد تتاح الفرصة للجمهور العريض للاطلاع على أحدث الإصدارات من دول العالم كافة. وخلال أيام المعرض، أو قبلها بأيام مثلما حدث هذا العام، يُعلن اسم الفائز بجائزة نوبل للآدب، وبهذا يشهد المعرض أول احتفال دولي بالفائز تنظمه بسرعة الدار التي تقوم على نشر أو ترجمة أعماله. وقد أعلنت دار زوركامب عن احتفائها بكاتبها الحائز نوبل هذا العام بيتر هاندكه. وقال أحد المسؤولين في الدار البرلينية إنهم كانوا يتوقعون منذ سنوات طويلة فوز هاندكه بهذا الوسام الأدبي الرفيع.
وخلال أيام معرض هذا العام (من 16 حتى 20 تشرين الأول/أكتوبر 2019) يقوم ما يزيد عن سبعة آلاف ناشر من أكثر من مئة دولة بتقديم أحدث المنتجات الورقية والرقمية في عالم الكتاب، وكذلك الوسائط البصرية والسمعية. وأغلب العارضين والناشرين هم ألمان (نحو نصف العدد)، يليهم ناشرون من بريطانيا والولايات المتحدة. ما يزيد على مئة ألف عنوان جديد يراها الزوار الذين بلغ عددهم في السنوات الماضية نحو 300 ألف زائر، من بينهم نحو 10 آلاف صحافي. كما يصاحب المعرض برنامج ثقافي ضخم يضم آلاف الفعاليات الثقافية، منها مئات الفعاليات المخصّصة للدولة "ضيف الشرف"، وهي النرويج هذا العام. كما يستضيف المعرض عدداً كبيراً من الكتاب العالميين، أبرزهم هذا العام الكاتبة الكندية مارغريت أتوود والكاتبة التركية إليف شافاك.
تنظيم وتخطيط
ما الذي يجعل معرض فرانكفورت أهم معارض الكتاب في العالم؟ أهو التنظيم الألماني الصارم والتخطيط المتقن؟ أم المساحة الضخمة؟ أم العراقة والتقاليد والخبرة؟ أم كل هذه الأسباب مجتمعة؟
تأسس المعرض قبل أكثر من 500 عام، وتحديداً بعد أن اخترع يوهانيس غوتنبرغ آلة الطباعة في مدينة ماينتس التي لا تبعد عن فرانكفورت سوى بضعة كيلومترات. وبمرور السنين أصبحت فرانكفورت مركزاً لطباعة الكتاب ونشره. وظل معرض فرانكفورت أهم سوق للكتاب في أوروبا حتى آواخر القرن السابع عشر. مع الإصلاح الديني تغير الوضع، وبخاصة بعد أن فرض القيصر الألماني الرقابة على الكتب آنذاك، ما اعتُبر محاولة لمقاومة الإصلاح الديني. وسرعان ما حلت مدينة لايبزغ محل فرانكفورت في عصر التنوير، وأصبح معرضها للكتاب أهم المعارض الأوروبية.
لم يستعد معرض فرانكفورت أهميته إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد تقسيم ألمانيا. وفي عام 1949 أُقيمت أول دورة للمعرض في قلب ألمانيا الغربية، وسرعان ما عادت للمعرض في فرانكفورت أهميته ومكانته الدولية.
والمعرض هو في المقام الأول منتدى للناشرين والوكلاء الأدبيين والمترجمين والصحافيين والنقاد وباعة الكتب والمشرفين على المكتبات، وأيضاً لمنتجي الوسائط الإليكترونية الجديدة، سواء بصرية أو سمعية.
ويشهد المعرض عدداً كبيراً من الندوات واللقاءات الأدبية التي تذاع في الراديو أو التلفزيون. وازداد الاهتمام الإعلامي بالمعرض بعد أن قررت إدارته في عام 1986 استضافة دولة أو منطقة ليكون أدبها هو "ضيف الشرف". كانت الهند هي الدولة الأولى المستضافة، وفي عام 2004 حلّ العالم العربي ضيفاً على معرض فرانكفورت، وفي العام الماضي سُلط الضوء على أدب جورجيا. أما هذا العام فسوف يحتفي المعرض بأدب النرويج. ومن المتوقع حضور عدد كبير من الكتاب النرويجيين، سيقيمون نحو 500 ندوة للقراءة من أعمالهم في عديد من مدن ألمانيا والنمسا وسويسرا.
والجدير بالذكر أن المرء يعرف من الآن ضيوف الشرف في الأعوام المقبلة (حتى 2023)، وهي بالتتابع: كندا وإسبانيا وسلوفينيا وإيطاليا.
الكتاب الإلكتروني
فتح المعرض أبوابه للوسائط الإلكترونة عام 1993 وسط معارضة شديدة من جانب اتحاد الناشرين والرأي العام. وإذا كانت هذه الخطوة قد نُظر إليها باستخفاف قبل ربع قرن، فقد أصبحت الوسائط الإليكترونية اليوم تمثل أحد المحاور الهامة في المعرض. وبلغت المنتجات الرقمية نحو 30 في المئة من المعروضات في الأعوام الأخيرة، وهو ما حمل عديدين على التخوّف من أن الكتاب الورقي لم يعد سيد "معرض الكتاب" في فرانكفورت بعد "الغزوة" التي قام بها "الكتاب الإلكتروني".
وفي الدورات الأخيرة ظل هاجس الحفاظ على كرامة الكتاب الورقي حاضراً، وكأن الجميع يستشعر نهاية الكتاب التقليدي. وربما لذلك كان الناشرون يؤكدون أن الكتاب التقليدي لن ينهزم بأية حال أمام الكتاب الرقمي، وأنه باق طالما بقيت الكلمة. هذا الاهتمام غير المسبوق بالكتاب الإلكتروني لم يترجم بعد إلى أرباح، إذ إن مبيعات الكتاب الإلكتروني لم تزد في الأعوام الأخيرة على واحد في المئة من إجمالي مبيعات سوق الكتاب الألماني التي تبلغ سنوياً نحو عشرة مليارات يورو. غير أن اتحاد الناشرين الألمان يتوقع أن تصل نسبة مبيعات الكتاب الرقمي على المدى المتوسط إلى عشرة في المئة من إجمالي مبيعات سوق الكتاب.
وليس هذا التنافس بين "الرقمي" و"المطبوع" في الحقيقة تنافساً على الانفراد بالوجود على الساحة، بقدر ما هو تجاور أو تكامل بين وسيطين. أما التحدي الذي يفرض نفسه على صنّاع الكتاب في المستقبل فهو حماية الملكية الفكرية في عصر الرقمنة.
جوائز المعرض
ولأن معرض فرانكفورت للكتاب هو الحدث الأهم في عالم الأدب الألماني، فقد استحدث الناشرون الألمان قبل أعوام جوائز تمنح خلال المعرض، منها جائزة "أدب الشبيبة"، وجائزة "الكتاب الألماني" التي أُسست على غرار جائزة "بوكر". ومثل "البوكر" تقوم دور النشر في المنطقة الألمانية (ألمانيا والنمسا وسويسرا) بترشيح أفضل الأعمال الروائية التي نشرتها خلال العام، وتختار لجنة التحكيم في البداية قائمة طويلة، ثم قائمة قصيرة تضم ستة أعمال. ويمنح الفائز 25 ألف يورو، بينما يحصل كل كاتب من الكتاب الخمسة الآخرين على 2500 يورو.
وهدف جائزة "الكتاب الألماني" تنشيط بيع الأعمال الأدبية عبر تسليط الضوء على أفضل ما نُشر خلال عام، وتشجيع عملية ترجمة الأدب الألماني إلى اللغات الأخرى، لا سيما أن سوق الكتاب الألماني منفتح على الآداب الأخرى (حوالى 76 في المئة من الكتب التي تتصدر قائمة أفضل المبيعات هي كتب مترجمة)، في حين تعاني عملية الترجمة من الألمانية ضعفاً نسبياً. ومن الجدير بالذكر أن هذه الجائزة تُمنح في كثير من الأحيان لكتاب شبان أو في عداد المجهولين. وقد حصل على جائزة هذا العام الكاتب الشاب البوسني الأصل ساشا ستانيشتش (من مواليد 1978) عن روايته "النسب". وكان ستانيشتش قد هاجر مع والديه من البوسنة عام 1992 خلال الحرب عليها، ولجأ إلى هايدلبرغ حيث التحق بالمدرسة الثانوية، ولفت أنظار معلم اللغة الألمانية لمهاراته في الكتابه، فشجعه على الاستمرار فيها، وكان حلم الصبي "أن يكتب فحسب". نشر ستانيشتش حتى الآن روايات عدة حازت جوائز عدة. وكان ستانيشتش من أبزر منتقدي منح هاندكه جائزة نوبل، واعتبر فوز الكاتب النمساوي "إشارة أخرى إلى أن التاريخ لا يهمنا في شيء. على الأجيال أن تتعامل مع عواقب التاريخ. أما نحن (لجنة نوبل) فنكافئ البلاغيات". وقد انتهز ستانيشتش حصوله على جائزة الكتاب الألماني ليلقي كلمة هاجم فيها هاندكه مجدداً.
أما أشهر وأقدم الجوائز التي تمنح خلال المعرض فهي جائزة السلام التي تُمنح دائما آخر أيام المعرض (يوم الأحد) في كنسية القديس بولس في فرانكفورت، وتعتبر أهم جائزة سياسية فكرية في ألمانيا. تبلغ قيمة الجائزة 25 ألف يورو، وفاز بها هذا العام المصور البرازيلي سيباستياو سالغادو الذي كرمته الجائزة لتسليطه الضوء في أعماله على العدالة الاجتماعية والسلام، وكذلك لإسهامه في حماية المناخ والطبيعة عبر تأسيس "معهد الأرض".
وقد حصل على هذه الجائزة المرموقة في العام الماضي عالم المصريات المشهور يان أسمان وزوجته أليدا أسمان، الأستاذة في علم الثقافة والأدب. وتعتبر الجائزة تكريماً لهما عن مجمل أعمالهما. وذهبت الجائزة في عام 2017 إلى الشاعرة والروائية الكندية مارغريت أتوود (من مواليد 1939) التي اعتبرتها لجنة الجائزة إحدى أهم كاتبات عصرنا. ومن الحاصلين على الجائزة في الأعوام السابقة أورهان باموك ويورغن هابرماس وماريو فارغاس يوسا وآسيا جبار ومارتين فالزر.
نظرة عربية
المقارنة بين معرض فرانكفورت وأي معرض عربي مقارنة ظالمة بالطبع، لكنها تلحّ على ذهن الزائر العربي. لكن: هل يمكن عقد مقارنة من الأساس بين معارض الكتاب في القاهرة أو الشارقة أو بيروت أو الدار البيضاء ومعرض فرانكفورت؟
لنأخذ أكبر المعارض العربية مثالاً: وفق الإحصاءات يزور الملايين معرض القاهرة الذي يمتد حوالى ثلاثة أسابيع، وتقام خلاله مئات الفعاليات الثقافية. المعرض احتفالية ضخمة، تجتذب عائلات بأكلمها تقضي يومها على أرض المعارض في مدينة نصر. ليست الإصدارات الجديدة هي الهدف من إقامة أي معرض عربي. المعرض في القاهرة أو بيروت أو الدار البيضاء هدفه بيع الكتاب، قديمه وحديثه، وأحياناً التخلص مما تفيض به المخازن من بضاعة راكدة. القارئ يستفيد من المعرض لحصوله على تخفيضات، ولتمكنه أخيراً من العثور على العناوين التي يبحث عنها، سواء من الأقطار العربية الأخرى، أو من القطر نفسه، فمشكلة توزيع الكتاب وتسويقه هي إحدى العوائق الرئيسة أمام انتشار الكتاب في العالم العربي. هذا هو الفارق الأساسي بين المعارض العربية ومعرض فرانكفورت الذي يحتضن في كل عام أضخم معارض الكتاب في العالم الذي يقام لمدة خمسة أيام فحسب، ثلاثة منها للمتخصّصين. ليس هناك بيع ولا شراء في فرانكفورت، إلا إذا كنا نقصد بيع وشراء حقوق النشر والطبع والترجمة.
بالقيام بجولة في أروقة المعرض ستتبيّن لنا الهوّة الشاسعة التي تفصل بين سوق الكتاب العربي وعالم النشر الدولي. فبينما تعجّ الأجنحة الألمانية والأوروبية بالناشرين والوكلاء والمترجمين الذين يتفاوضون أو يتفقون على نشر هذه الكتب في بلد آخر، أو ترجمتها إلى لغة أخرى، فإن الأجنحة العربية من مصر ولبنان والامارات والمغرب العربي تكاد تخلو من الزوار. كما أن عدداً كبيراً من الأجنحة يعرض كتباً قديمة قد يزيد عمر بعضها على عشر سنوات. مَن يذهب إلى بعض الأجنحة العربية، يستطيع أن يقتنص الفرصة ويجلس على أحد الكراسي الكثيرة ليريح قدميه المتعبتين، وباستطاعته التفرج عندئذ على الكتب والمجلدات المصورة المعروضة. ولكنها كتب لا تثير اهتمام أحد سوى الزائر العربي، لأنها نادراً ما تكون مترجمة. أي أننا كثيراً ما نخاطب أنفسنا. وهذا يعن يان الحضور العربي هو رمزي أكثر مما هو فاعل ومؤثر.
في جولاتي خلال الأعوام الماضية كنت أخرج من فرانكفورت بانطباع متشائم في ما يخص الكتاب العربي، فالحركة الأدبية النشيطة تتطلب منظومة متكاملة: نظام تسويقي فعال للكتاب يجتاز الحدود والعوائق، ونقاد يقومون بفرز الغث من السمين، وجوائز تسلط الضوء على أبرز الإصدارات الجيدة، وحركة ترجمة نشيطة تتابع أحدث ما صدر، وتقاليد راسخة في دور النشر تعمل على خروج الكتاب، سواء كان مترجماً أو مؤلفاً، في أفضل صورة بعد مراجعته وتنقيحه. ليس الأمر إذن هو مجرد إقامة معرض للكتاب، حتى إذا كان هو الأضخم والأهم.