على مسافة ساعات قليلة من انتهاء المهلة التي أعطاها رئيس الحكومة اللبنانية لنفسه، قبل أن يحسم خياره أمام الجموع المحتشدة بعشرات الآلاف في ساحات الوسط التجاري للعاصمة اللبنانية أو ساحات مختلف المناطق بكل أطيافها وألوانها السياسية والمذهبية والحزبية، لا يزال الغموض يشوب المشهد السياسي وسط ضبابية لافتة حيال ما ستكون عليه سيناريوهات الخروج من المأزق الحكومي، وهي في أحسن الأحوال سيناريوهات خطيرة تفتح البلاد على كل الخيارات والاحتمالات الصعبة والموجعة.
فالموقف الاستفزازي للأمين العام لحزب الله الذي رسم فيه خطاً أحمر في وجه إسقاط رئيسَيْ الجمهورية أو الحكومة أو حتى المجلس النيابي، وفقاً لما يصرخ به الشارع الغاضب، قلّص هامش الخيارات المتاحة أمام رئيس الحكومة ووضعه في موقع محرج جداً تجاه حلفائه وشارعه وشركائه في الحكم، وفي الصورة الأوسع، حيال الشعب اللبناني الذي نزل بكل أطيافه بما فيها الطيف السني ليطالب باستقالة حكومته. وجاء هذا الإحراج على خلفية التهديد الفاقع والمستفز الصادر عن نصرالله للمتظاهرين في شكل علني وللحريري وحلفائه في شكل مبطن، بالشارع المقابل الذي يمثله الحزب، ليس بجمهوره بل بقوته العسكرية. وبدا واضحاً من تراجع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أن الرسالة وصلته جيداً، فتراجع عن اندفاعته نحو استقالة الحكومة، من خلال دعمه الكامل لرئيسها، وإلى جانبه الحليف المسيحي رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، بالإقدام على هذه الخطوة.
ولكن، بعد كلام نصرالله ليس كما قبله، علماً أن المشهد السياسي بعد أيام الانتفاضة الأربعة لن يكون كما قبله. وإذا كان لا يزال من المبكر تقويم حسابات الربح والخسارة الآن، باعتبار أن الصورة لا تزال ضبابية حيال السيناريوهات المطروحة لإدارة الأزمة في الأيام القليلة المقبلة والتي تتوقف على موعد خروج الناس من الساحات والطرق، والآلية التي سيخرجون بها، وهل تكون سلمية على غرار تظاهراتهم واعتصاماتهم، أو تكون على وقع اضطرابات أمنية مفتعلة لإشعال الساحات وحرفها عن مسارها؟
أسئلة كثيرة تطرحها الأوساط السياسية بقلق مفرط أمام مشهدية جامحة جديدة، قلّما اعتادها لبنان، بعدما كسرت الانتفاضة كل المحظورات الحزبية والسياسية والطائفية وعرّت الزعماء السياسيين وحجّمتهم، بحيث لم يسلم زعيم من شظايا نار هذه الثورة التي أطاحت بكل الشعارات التقليدية البالية التي حكمت اللبنانيين لعقود وأوصلتهم إلى حال الفقر والإفلاس.
لن يكون بعد تلك الانتفاضة الغاضبة رابح بأي من المعايير القائمة، بعدما فقدت كل القيادات، بما فيها نصرالله نفسه وحتى الحريري هالة القيادة تحت مظلة شعارات رنانة، الأول تحت راية "المقاومة" والثاني تحت شعار ولي الدم.
ولكن السؤال المطروح بقوة وقلق اليوم، ماذا بعد الأيام الأربعة للاحتجاجات الشعبية، وأي سيناريوهات ترتسم لإخراج البلاد من المشهد المأزوم بأقل الخسائر الممكنة؟
في رأي مصادر سياسية رفيعة، لا يزال من المبكر رسم خريطة الطريق التي ستسلكها البلاد في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ الحريري لم يعلن بعد موقفه في انتظار انتهاء مهلة الـ72 ساعة التي أعطاها لنفسه قبل أن يصبح "لكل حادث حديث"، كما أعلن في كلمته للبنانيين أمس الأول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على وقع التظاهرات الصاخبة، تكثفت حركة الاتصالات والمشاورات على خط بيت الوسط، دارة رئيس الحكومة، في اتجاه القوى السياسية المحلية، كما فُتحت الخطوط الخارجية. وعلمت أن ثمة تأكيداً دولياً على ضرورة عدم إقدام الحريري على الاستقالة، لما ترتّبه مثل هذه الخطوة من ارتدادات سلبية على الأوضاع الاقتصادية والمالية، تحت وطأة أزمة مالية خطيرة تتهدد البلاد. وتأتي النصائح الدولية التي عبّرت عنها دول أوروبية ومنها فرنسا، ومسؤولون في صندوق النقد الدولي على خلفية أن التوقيت سيئ وخطير جداً لدخول البلاد في فراغ دستوري، قد يستغرق وقتاً طويلاً قبل الوصول إلى توافق على شكل الحكومة المقبلة وتركيبتها، لا سيما أن دولاً غربية لا تخفي مخاوفها من اتجاه المحور الذي تقوده إيران في لبنان وذراعه حزب الله إلى حكومة من لون واحد تُحكِم قبضتها على لبنان.
ولكن بقاء الحريري في السلطة سيتطلب إجراءات فورية من شأنها أن تقنع الشارع وتخفّف من وطأة غضبه، خصوصاً أن لا قيادة موحدة لهذا الحراك الشعبي، تتحكم بوجهة تحركه.
ولا تقلل المصادر السياسية الرفيعة من أهمية قرار المتظاهرين بإعلان الإضراب العام غداً، ما من شأنه أن يمتص بعضاً من الحركة الاحتجاجية من خلال استمرار التعبير الرافض وإنما بآليات أخرى، من دون أن يسقط مثل هذا الخيار بقاء الناس في الشارع. وتأمل المصادر في أن يتم التوافق سريعاً على الورقة الاقتصادية التي اقترحها الحريري على الكتل النيابية المختلفة وعلى القوى السياسية، بما يمكن أن يعجل في انعقاد جلسة حكومية تتخذ القرارات المقترحة وتضعها قيد التنفيذ، وتالياً يسمح بامتصاص جزء من غضب الشارع، على خلفية أن الورقة تقترح، إلى جانب بعض البنود الإصلاحية، اقتطاعات من رواتب الوزراء والنواب والطبقة الحاكمة، إضافةً إلى وضع قانون لاستعادة الأموال المنهوبة، علماً أنّ أوساط المتظاهرين لا ترى في الورقة المقترحة إلاّ تجديداً لوعود سابقة لم تر النور، في إشارة إلى أن السلطة ليست في وارد التنازل عن أي من مكتسابتها، حتى لو كان ذلك على وقع شارع غاضب ومحتج.
وتأمل المصادر في أن يكون هذا السيناريو أقرب الحلول المتاحة، خصوصاً إذا اقترن مع تعديل حكومي، ومساعدة الجيش في استعادة ضبط الأمن وفتح الطرق، وإلاّ فإن السيناريو الأسوأ هو الذهاب إلى الفوضى التي تفتح البلاد على كل الاحتمالات، لا سيما أن الوضع المالي لا يحتمل، والمصارف التي أقفلت أبوابها منذ يوم الجمعة وحتى الاثنين، لا يمكنها الاستمرار في الإقفال إلى أمد غير منظور، وأي عودة إلى عمل السوق المالية في الظروف الراهنة، سيعني حكماً انهيار العملة الوطنية.