منذ الإعلان عن استقلال لبنان على نصاب ما عرف بالميثاق الوطني عام 1943، قامت الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها على مبدأ المساكنة بين المكونات الدينية والمذهبية والحزبية والسياسية، ما عرقل عملية بناء المواطنة خارج هذه المحددات والانتماءات، وهو ما سمح للمؤرخ اللبناني الراحل، كمال صليبي، بأن يصف الصيغة أو التركيبة اللبنانية بأنها "بيت بمنازل كثيرة".
احتلت الطوائف والمذاهب والأحزاب منازل هذا البيت وأقفلت الأبواب خلفها مدافعة عما تعتبره مكتسبات وحقوقا لأبنائها أمام أطماع أو مطالب الطرف الآخر، انطلاقا من عدم اعتراف أي منها بأن الآخر شريك في هذا الوطن، بل النظر إليه كمضار يسعى إلى تحقيق المزيد من المكاسب والأفضلية والتفوق. وإذا ما حدث أن تبانت هذه المكونات على التلاقي، فإنها كانت تلجأ محكومة بالخوف إلى فتح "نوافذ" تطل منها على الآخر، من دون أن تكون مضطرة إلى فتح أبواب منازلها، وهذا ما جعل لبنان مسرحا لحروب دورية، لا يفصل بين الحرب والحرب سوى استراحة محارب، والتفتيش عن أسباب تسويغية لإعادة إشعالها وتفجيرها.
يمكن القول إن يوم الخميس الموافق السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وانطلاقة الحركة الاحتجاجية الشعبية اللبنانية على خليفة فرض الحكومة لسلسلة من الضرائب تطال الشريحة الأوسع من اللبنانيين من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، قد يضارع محاولات "تأسيس جديد" للاجتماع اللبناني، من دون الإفراط في التفاؤل بإمكانية إن يؤتي ثماره، أو أن يستمر من دون إحباطه، وإن هذا التأسيس يأتي من خارج إرادة البيوت الطائفية والمذهبية والحزبية، وهي محاولة لم تستطع أحداث 14 فبراير (شباط) 2005 في عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاها، تحقيقه على الرغم من الشعارات التي رفعت حينها الداعية للحرية والسيادة والاستقلال. لا، بل أسهمت في تقسيم لبنان إلى فسطاطين سياسيين تغلب عليهما رائحة المصادرة الطائفية، على الرغم من تعدد وتنوع مكوناتهما، عرفا لاحقا بمعسكري 8 آذار و14 آذار.
الحراك الشعبي استطاع هذه المرة أن يكسر أبواب البيوت الطائفية والحزبية وأن يخرج إلى مساحات التلاقي الإنساني والمطلبي، ويجتمع في ساحات الوطن الواحد الجامع، في رفض لكل الممارسات الشاذة والمستغلة والمتعالية للطبقة الحاكمة وأحزابها. ولم يترك اللبنانيون لهؤلاء سوى بعض النوافذ يختبئون خلفها وينظرون منها إلى "فزاعاتهم" الطائفية وهي تتهاوى عند إرادة التواصل والانفتاح وكسر الحواجز التي سعى قادة الطوائف إلى بنائها خلال عقود حفاظا على مصالحهم الخاصة، باسم الطائفية حينا والحزبية حينا آخر.
اجتماع اللبنانيين في ساحة "المنزل" على أمل أن تتحول إلى وطن حقيقي، كشف عن حقائق نتجت عن هذا التحرك لا يمكن إغفالها، أصابت موقع ودور وتاريخ العديد من القيادات السياسية والزعامات الطائفية بجروح من الصعب أن تتعافى منها، خصوصا إذا استمرت في تعنتها والتمترس خلف انتماءاتها السياسية والطائفية وعدم الاعتراف بالمتغير الحاصل على يدّ الشعب الثابت اللبناني الوحيد إذا استطاع البقاء خارج بيوته الطائفية.
بعض الجروح أصابت عددا من القيادات التي تسلحت بمواقفها السياسية وصراعات المصالح متوارية بعيدا عن الطابع المذهبي والطائفي، قد لا يكون المجال هنا واسعا للحديث عنها، وعن أبعاد وأسباب خسارتها وخسائرها ومكابرتها بشعور الانتصار، وإن تأخر إلى مرحلة لاحقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن الجروح الأصعب والأكثر وضوحا، قد تكون تلك الجروح التي أصابت "البيت الشيعي" في غرفتيه، اللتين تحتكران تمثيله، أي "حركة أمل" و"حزب الله"، فالحراك الشعبي شكّل لهما صدمة حقيقية عندما اكتشفا أن شريحة يعتد بها من أبناء هذا البيت الطائفي غير منصاعة لمسلمة "حصرية" التمثيل، فضلا عن اكتشافهما أن قبضتهما لم تعد محكمة على المؤيدين لهما، إذ خرج الكثيرون منهم على "الطاعة" والتحقوا بالجموع الشعبية الخارجة من عباءة الطائفية إلى ساحة الوطنية والمطالب المحقة الرافضة للفساد والمصادرة المستمرة لهم وللوطن.
ما شهدته مدينتا "النبطية" و"صور" في الجنوب اللبناني، اللتين تعتبران معقلا لـ"حزب الله" و"حركة أمل" على التوالي، كان مفاجئا حدّ الصدمة للمتابعين لهذين الحزبين على حدّ سواء، فأن تخرج النبطية أو تسمح للقرى التابعة لها بأن تتوزع شوارعها في حركة اعتراضية على قوى سياسية "تصادر" التمثيل الشيعي، وأن تشارك هي في هذا الحراك، يعتبر سابقة في تاريخ هذه المدينة التي تحرص على عدم الكشف عن هويتها السياسية أو الحزبية. هذا الخروج كان بمثابة "جرس إنذار" لحزب الله الذي يمتلك التأثير الأكبر في هذه المدينة والقرى والبلدات التابعة لها، ولعل الهجوم الذي طال مكاتب نواب القضاء في المدينة والممثلين لـ"حركة أمل" قد أحرج الحزب بشكل كبير، ثم تلاه الاعتداء على مكتب رئيس كتلة نواب الحزب، ليتوصلا بعدها إلى حالة من "ربط نزاع" يلجم التدهور الذي بدأ يصيب العلاقة بينهما يستفيد من طرف ثالث.
ما حدث في النبطية شكّل شرارة تحركات أكثر جرأة تلقفها الشارع الشعبي في مدينة صور، التي توصف وتعرف بأنها "مدينة الإمام موسى الصدر"، المؤسس والقائد لحركة المحرومين "أمل"، وهذه المرة الحراك أصاب رئيس الحركة والبرلمان، السيد نبيه بري، الذي يعتبر باعتراف جميع الأطراف الطائفية والحزبية، وتلك التي لديها موقف سلبي من الطبقة السياسية، "صمام أمان ومجترح المخارج للأزمات اللبنانية"، إلا أن النقمة الشعبية على تصرفات بعض المحسوبين عليه كسرت كل المحرمات في التعامل معه، زادتها ردة فعل مناصرين ذهبوا إلى استخدام السلاح لتهديد المعترضين وتهديدهم.
ولعل قيادة "حركة أمل" فهمت وتلقفت الرسالة من وراء هذا الاستهداف، الذي لم يطل أيا من القيادات الطائفية والحزبية كما حدث مع رئيس البرلمان وزعيمها، فكانت أولى ردات الفعل على هذه الرسالة امتناع القناة التلفزيونية التابعة لحركة أمل "NBN" عن بث خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، يوم التاسع عشر، ثم تقوم بعد يوم ببث تقرير عن أوضاع الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، التي تبدو وكأنها منفصلة عما يشهده لبنان من اعتراضات واعتصامات ومظاهرات، لتتوج في اليوم التالي بمسيرات الدراجات النارية التي رفعت أعلام "حزب الله" و"حركة أمل"، وحاولت اختراق التجمع الشعبي الأكبر في وسط مدينة بيروت.
هذا التحرك الأخير استدعى تدخلا سريعا من "حزب الله"، الذي سارع إلى إصدار بيان عن وحدة العلاقات الإعلامية، ينفي فيه أي علاقة له بهذه التحركات، وأن من شاركوا في مسيرة الدراجات تلك لا علاقة لهم بالحزب ولا يمثلونه، ما يحمل على الاعتقاد بإمكانية اتّساع رقعة الصراع والتباعد بين الطرفين ما لم يسارعا إلى ترميمها، كي لا يتم استغلالها والاستفراد بكل واحد على حدة.
في العموم، فإن الحراك الذي شهده لبنان من شماله إلى جنوبه، شكل صدمة نزلت على رؤوس القوى والأحزاب التي دأبت على الاستخفاف بالمطالب الشعبية المعيشية والحقوقية، ومارست أعلى درجات الوقاحة في عمليات النهب المعلن للدولة والشعب، إلا أن الخوف يبقى من أن تستطيع القوى والأحزاب السياسية إعادة ترميم أبواب بيوتها وتعيد حبس طوائفها داخل غرف هذه البيوت ومصادرة أحلامها بالتلاقي والتواصل والعمل على بناء مواطنة حقيقية ووطن يليق بهم وبطموحاتهم.