كما في العراق كذلك في لبنان: سوء إدارة سياسية للمال والاقتصاد. وخلل وطني في ممارسة "النأي بالنفس" عن صراعات المحاور الإقليمية والدولية. ثورة شعبية سلمية عابرة للطوائف والمذاهب والأحزاب. وثورة مضادة للحفاظ على الأوضاع التي تسمح بالسطو على المال العام وتمنع التمرّد على التموضع في محور إقليمي محدّد. شيء من عودة الروح إلى الوطنية ضمن المصالح العربية. وشيء من فتح ثغرة في جدار النظام القائم على "المكوّنات" في العراق و"العائلات الروحية" في لبنان، بدل أن يقوم على الأفراد، وأن تكون الدولة، كما وصفها أرسطو قبل آلاف السنين، "جماعة مواطنين عاقلين أحرار، لا جماعة مؤمنين".
الشكوى في العراق من البطالة والرشوة والهدر والفساد وسوء الخدمات، كما من النفوذ الإيراني المتعاظم والوجود العسكري الأميركي المحدود. وما فعله فريق من "الحشد الشعبي" المسلّح الذي يتلقّى الأوامر من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني هو إرسال قناصة أطلقوا النار على المتظاهرين، فسقط أكثر من مئة قتيل ومئات الجرحى. وما فعلته "الرئاسات الثلاث"، أي رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، هو تحسين بعض التقديمات للناس، والحذر من أي انتقاد للنفوذ الإيراني والتسليم العراقي الرسمي به وبالوجود الأميركي.
والشكوى في لبنان هي أيضاً من البطالة وتراكم الدين العام والفساد والرشوة والهدر والسطو على المال العام والاقتراب من الانهيار المالي والاقتصادي، كذلك من تزايد النفوذ الإيراني من خلال قوة "حزب الله" وحركة عدد من الأصدقاء والوكلاء. وما حدث هو أن "حزب الله" رفض أي تغيير في السلطة التي له فيها الكلمة الفصل عملياً، وبالتالي مارس سياسة السعي لتفشيل الثورة على البارد، والعمل على معالجة "التمرّد" على أوامره في مناطق الغالبية الشيعية، حيث نفوذه الواسع.
ولا شيء يوازي دقّة الوضع العراقي وتاريخه وجغرافيته اكثر من حساسية الوضع اللبناني وتاريخه وجغرافيته. وفي الوضعين، خلل في التوازن السياسي والوزن الوطني. وإذا كانت السلطة في العراق وجدت نفسها مضطرة أمام الثورة الشعبية للوعد بإجراء تعديلات على الدستور وبالتالي في النظام لجهة التخلّي عن المحاصصة الطائفية على الطريقة اللبنانية، فإنّ السلطة في لبنان بدت مغلقة في وجه التغيير السياسي، وكل ما حاولته هو اتخاذ قرارات حول إصلاحات مالية واقتصادية وإدارية.
لكن من الوهم الهرب من "قوة الشعب" التي ظهرت في التظاهرات الحاشدة في كل المناطق اللبنانية. فالسلطة، مهما كابرت واقعة، ومعها لبنان، في مأزقين متداخلين: مأزق الانهيار المالي والاقتصادي ومأزق تحميل الوطن الصغير أثقال الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وعليه، ما تقرّر في مجلس الوزراء، بدل أن تستقيل الحكومة، أقلّ بكثير من المطلوب للخروج من مأزق الانهيار الاقتصادي والمالي. وما تهرب السلطة بكل مؤسساتها من مواجهته، هو منع أخذ لبنان إلى المحور الإيراني أو أقلّه الاعتراض عليه. وهو أيضاً "الدور الإقليمي" لحزب الله وسلاحه في سوريا واليمن والعراق وأماكن أخرى، ضمن المشروع الإيراني، مهما تكن انعكاساته على لبنان المحتاج إلى العرب والغرب.
ولا أحد يتوقّع، وإن كان هناك من يتمنّى، أن تعمل السلطة ضد مصالحها. فالثورة الشعبية الرائعة مخيفة للسلطة. والصدمة التي أحدثتها الثورة مرشّحة للتجاذب في اتجاهين: واحد نحو تلاشيها بالتدرّج واستعادة الطوائف للذين "تمرّدوا" عليها. وآخر نحو تصعيدها بحيث تأخذ قوة الشعب موقعها في إعادة تكوين السلطة. أهل السلطة يدقّون كل الأبواب من أجل عودة النازحين السوريين إلى بلادهم من دون استجابة، في حين يزداد نزوح لبنان السياسي نحو دمشق وطهران. والتسرّع في قراءة التحوّلات الاستراتيجية في المنطقة، يقود إلى توريط لبنان في اللعبة. وهذا خطأ في تقدير تطورات وأحداث ذات سيولة عالية، لا أحد يعرف كيف تنتهي عملياً وبماذا وضمن أي صفقة بين الكبار وعلى حساب من.
ومن الرهانات الخاطئة تخريب أي توجّه نحو الوحدة الوطنية بحجة أنّه معاكس لطبائع الأمور التي هي تجذّر الطائفية والمذهبية. ومنها أيضاً السعي لاحتواء الثورة الشعبية عبر قليل من الإرضاء قبل الاندفاع في الإلغاء.
فالأزمة وحّدت الجائعين الغاضبين وستقود إلى تفريق بين الشركاء وفي الصفقات. والثورة فعلت فعلها. وكل المحاولات للالتفاف على رمزيّتها هي تمارين في العبث.