أظهرت الاحتجاجات في لبنان حزب الله أضعف حجة وربما عتاداً أيضاً من أي وقت مضى في تاريخه القريب، ليس لأن ذلك مخططاً من الناشطين فيها، ولكنها لعبة الأقدار ودورة الزمن.
ذلك أن الحزب الذي يدعي بسطة في الصدقية وثبات المنهج، فاجأته الاحتجاجات في مناسبة "أربعين الحسين" التي اتخذها رئيس الحزب منبراً لتوزيع المواقف السياسية والتذكير بالمبادئ والتضحيات التي طالما قال إنه يبذلها ودائم الاستعداد للوفاء بها تحت أي ظرف، إن كان في لبنان أو سورية أو العراق أو اليمن، كما أن "الايراني أيضاً لن يذهب إلى أي معركة مكشوف الظهر وفي الحزب العربي وأنصاره رمق من حياة".
لكن الذي حدث أن الظرف المكاني للمظاهرات والزماني لذكرى "الأربعين"، أوقعت الحزب في فخ تناقض، لا تحتاج ملاحظته ذكاء استثنائياً، فبينما كانت الحشود تخاطب في الحزب القيم التي طالما نادى بها من نصرة المظلوم، عاد إليهم صدى زعيم الحزب حسن نصر الله بلغة "ملؤها التبخيس والتهديد المبطن" كما فهم المتظاهرون والمحللون.
العهد يساوي نصر الله
أما "نداء الحسين" الذي قال زعيم الحزب إنه صرخة كل مظلوم، فإنه صرفه إلى اليمن والعراق والبحرين وسورية، أما أهله الأقربين في لبنان فإن "مطالبهم لن تتحقق"، وليسوا جديرين ببركات الحسين أن تتنزل عليهم، حسب مؤدى خطابه.
وهكذا رأى منتقدون للحزب أن زعيمه نصر الله "وإن حاول صبغ خطابه بالعقلانية إلا أنه جاء مناقضاً لشعاراته، وأظهره في موقف ضعف، لكأنه في المعسكر الآخر الذي يحمل شعارات الحسين وصرخاته، فلسانه يتحدث باسم الحسين ونصرة من هم على شاكلته اليوم، وأفعاله في صف يزيد والجلادين". على حد قول أحد المعلقين.
بينما المحلل السياسي السعودي خالد الدخيل أن التناقض الذي بدا به نصر الله مفهوم، ذلك أن "الشعب اللبناني إنما انتفض ضد العهد الذي فرضه حزب الله بقوة السلاح. ونصرالله يلقي خطاباً يستخدم فيه التاريخ الماضي للتحريض الطائفي بإسم الحسين. لكنه يتحدث عن الروح الوطنية. يعلن الطائفية لكسب طائفته ويلوح بالوطنية دفاعا عن العهد".
ومع أن المظاهرات تجاوزت حدود الطوائف، واتخذت الوطنية شعاراً، إلا أن نصر الله ظل مستمسكاً بالمنطق الطائفي نفسه، مما حمل الدخيل إلى الاعتقاد بأن زعيم حزب الله إنما يحتمي من المظاهرات بـ"الخيارات الطائفية" التي تتجاوز محيط لبنان إلى إيران. واتهم الزعيم الذي كان يحظى باحترام حتى بين المعترضين على سياساته من قبل بأنه "إستمرأ الكذب، والمجاهرة بطائفيته علناً، والمفاخرة بعمالته لايران أمام الملأ. ثم يملك الجرأة على انه يريد ان يوزع نصائحه على الجميع".
المفاجأة فعلت فعلها
ويرى أن خطاب نصر الله قبل أيام، ليس فقط كشف قناع تناقضاته، وإنما أيضاً نيته المبيتة نحو الحراك الذي لم يستطع الاستجابة لمطالبه لأنها ليست على النحو الذي يهوى، "فنصر الله خلع قفازاته وهدد بصوت مرتفع ومتشنج بإنزال قوات حزبه الى الشارع لقمع المتظاهرين، والمطالبة بمحاكمة من يطالب بإسقاط العهد الذي إختار هو بتوجيه من ايران فرضه على اللبنانيين".
بدوره يعتبر الكاتب اللبناني وليد شقير المحسوب على جناح سعد الحريري أن الانتفاضة فاجأت ليس حسن نصر الله وحده، ولكن الزعماء جميعاً، فما ملكوا جواباً مقنعاً عليها. ذلك أن "الجمهور انفلت من عقال المرجعيات الطائفية والحزبية وأصبح عابراً للطوائف والمناطق. وهو بلغ دول الانتشار. شرع الحراك، الذي قد تكون منظمات مدنية أو حزبية من خارج السلطة مشاركة فيه، بتنظيم نفسه كما ثبت من سلوكه بدءاً من يوم السبت. وأي بحث في المخرج يجب أن ينتظر نشوء قيادة موحدة له تحدّد أهدافه وسلوكه السياسي بالعلاقة مع السلطة. هناك حاجة لتلك القيادة للتمثل بانتفاضتي الجزائر والسودان".
آلام الناس أتت من حروبه
واتهمت تقي الدين صراحة نصرالله في مقالة لها على نداء الوطن اللبنانية بأنه "هو الذي أفقر الشعب بردع أموال دول غنية غربية وعربية من التدفق الى لبنان. والسيد يدير الأمور السياسية الفاشلة في البلد منذ سنوات بنفوذ سلاحه وأصبح يعلن بصراحة وغطرسة انه ممنوع إسقاط العهد. فكيف يسقط عهداً إختاره"؟
المظاهرات في صف الحزب
لكن فريق حزب الله يرى الصورة من زاوية أخرى، إذ حاول تجاوز مضامين الخطاب ولهجته التي أزعجت المتظاهرين، إلى تأويله بدلاً من الاعتذار عنه، أو إظهار الزعيم في موقف الذي أخطأ التقدير. ففي حلقة لقناة الميادين أحد الألسنة المؤيدة لحزب الله والنظام السوري، يحاجج سالم زهران بأن "المظاهرات المطلبية في لبنان خدمت حزب الله أكثر مما يتخيله المتظاهرون"!
فكيف إذن يرفضها الحزب ويراها بلا جدوى ومضيعة للوقت ولن تحقق مطلبها وفق أعلى رأس في الحزب نصر الله؟ لا يهم ذلك كثيراً زهران، فهو يفسر لماذا انقلبت المظاهرات إلى صالح الحزب، ويضيف "قبل وبعد كلمة نصر الله، المظاهرات خدمت الحزب، فالورقة الاصلاحية التي تمت الموافقة عليها ما كانت لتحصل لو لم تحدث التظاهرات، لكن هناك من يحاول ركوب هذه المظاهرة من اجتماعية استفاد منها الحزب لتمرير القرارات الاصلاحية، إلى مظاهرة سياسية لضرب حزب الله".
وكان خطاب زعيم حزب الله حسن نصر الله الذي جاء في أعقاب بداية التظاهرات اللبنانية، كان في مناسبة "اربعين الحسين"، التي يحتفل بها المسلمون الشيعة، ويتوافدون بالملايين إلى كرباء في العرق، حيث يرقد سبط رسول المسلمين الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتل في واقعة الطف بكربلاء 680م على يد جيش يزيد بن معاوية، فظلت الطائفة الشيعية تحيي تلك المناسبة تضامناً مع الحسين الذي هو ثالث أئمة الشيعة الاثنا عشر، بعد والده علي وشقيقه الحسن.
لكن حزب الله اعتاد توظيف المناسبة وغيرها في غير ما نشأت من أجله، إذ جعلها فرصة لتصفية الحسابات السياسية، والتحريض ضد دول خليجية وعربية واقليمية، يرى لبنانيون أن الموقف منها كان بين أسباب متراكمة أدت لتخليها عن لبنان جراء استفراد نصر الله بالقرار فيها، كما يعتقدون.