إنّ مقولة "الضربة التي لا تقتلك تقوّيك" تبسيطية ومخادعة وربّما حتّى مدمّرة. صحيحٌ أنّ بعض الذين يمرّون بأحداث رهيبة يصبحون أقوى بعد النجاة منها، لكن هذا القول لا يصحّ سوى بالنسبة لمن كانوا أقوياء في المقام الأوّل على الأرجح. فعندما يواجه غيرهم ظروفاً رهيبة، يرجّح أن تخلّف في نفوسهم جروحاً عميقة يعانون منها لسنوات أو عقود بعدها.
فالنجاة من التجارب المزعجة المتكررة يمكن أن تؤدي بالناس إلى تطوير ذهنية الناجي وهي شكل من أشكال الصمود يمثّل وسيلة ضيقة للوصول إلى غاية ولكنها لا تساعد على تكوين حياة ذهنية وعاطفية إيجابية وصحيّة. في مقابلة له مع قناة البي بي سي مؤخراً، شرح الكاتب والشاعر ليمن سيساي أنه على الرغم من الصلابة التي اكتسبها بفضل التجربة التي مرّ بها خلال طفولته، فهو لا يتمنى أن يُبلى ألدّ أعدائه حتى بهذا النوع من المرونة مع المصاعب.
ترسّخت فكرة المرونة الذهنية أو العاطفية في المجتمع لأنها دُرست للمرة الأولى خلال ستينيات القرن الماضي. لكن المفهوم أضحى يشمل اليوم كل القضايا المتعلقة بالضغط النفسي والقلق. وهو في الحقيقة مفهوم أقرب إلى السلبية يمكن مقارنته بالهندسة المرنة التي تستطيع أن تنجّي من العواصف العاتية. أي أنه يتعلق بالقدرة على "التشبث والانتظار".
وفي المقابل، يُعتبر مفهوم المتانة الذهنية مصطلحاً جامعاً تنضوي تحت لوائه الكثير من الأفكار الأساسية المتعلقة بالمرونة ولكنه يوفّر طريقة إيجابية ومحدّدة أكثر لمساعدة الناس على التعامل مع المواقف الصعبة المثيرة للتوتر والقلق. ويكمن الفارق الرئيسي في عدم التركيز فقط على التهيؤ لمواجهة العواصف العاطفية فقط بل في الشعور بالقدرة على الاتجاه طوعاً نحو بيئة مرهقة والازدهار فيها. وتبدو المتانة الذهنية بهذا المعنى من المتغيرات النفسية الإيجابية المتعلقة بالنجاح، ولديها ميزات مفيدة على الصعيد النفسي تتخطّى مجرّد تقبّل القلق والتعامل معه إلى البحث عن فرص للتطور الذاتي والنمو.
طوّرت وزملائي نموذجاً للمتانة الذهنية أسميناه بالإنكليزية "فور سيز"(الجيمات الأربعة) وهو أكثر النماذج انتشاراً لتحديد المتانة الذهنية وقياسها. وهو يقوم على أربعة مكوّنات هي: الثقة والسيطرة والإلتزام والتحدي.
النجاة والازدهار
خلافاً للمرونة وغيرها من نماذج المراس، ليس الضعف هو مقابل المِراس في نموذج "فور سيز" الحساسية. فالحسّاسون يصعب عليهم التعامل مع الضغط النفسي لكن نظرتهم إلى العالم فريدة من نوعها وملفتة وتساهم في تنويع الحوار والنقاش. وفيما تبدو صورة العالم واضحة المعالم ودقيقة التفاصيل بعيون من يتمتعون بشدة المراس، يميل الحساسون إلى تكوين صورة أقرب إلى التجريدية والانطباعية.
والصورتان صحيحتان ويجب تشجيعهما وتثمينهما. لكن الأشخاص الذين يتمتعون بذهنية متينة يميلون إلى الازدهار في غمرة الأوضاع المتشنّجة المثيرة للتوتّر ولذا يرجّح أن يحتلوا مناصب عليا ويصبحون أصحاب القرار. وغالباً ما تبدأ هذه المسيرة نحو القمة من المدرسة. وتتوفر دلائل واضحة على أنّ أداء التلامذة الأقوى ذهنياً أفضل خلال الامتحانات وكافة الخطوات الانتقالية الموجودة كثافة في كثير من الأنظمة التعليمية.
سيكون من المفيد جداً أن توفّر المدارس دعماً أكبر للتلامذة الأكثر حساسية ورهافة ولكن من غير المرجّح أن يحصل هذا التوجّه خلال هذه الفترة الزمنية التي تشحّ فيها المصادر. وتشير الأدلة إلى أنّه ضمن فئة اليافعين، يصبح الأقوياء أقوى فيما يصبح الحساسون أكثر حساسية مع تقدّمهم بالعمر.
حاجج بعض الباحثين وأنا منهم بأنّ المراس الذهني يتقاطع كمفهوم مع بعض الخصال التي يُعتبر تعليمها مهماً. ومنها مثلاً القدرة على التكيّف والفرح والنشاط والمثابرة والقدرة على التأثير والثقة بالذات والتحفيز. غالباً ما يهتم المعلمون كثيراً بتعزيز هذه الصفات النفسية الإيجابية ويعملون على تحويل طلابهم إلى متعلّمين ناجحين وأشخاص واثقين بأنفسهم لهم إنجازات أكاديمية ومساهمات إيجابية في المجتمع.
أتعاون مع شركة آي كيو آر للاختبارات النفسية للعمل داخل عدد من المدارس في شمال إنجلترا بهدف زيادة مراس التلاميذ. والهدف هو تحسين أداء التلامذة أثناء الامتحانات والتخفيف من حدة القلق جراء الخطوات الانتقالية والأهم من ذلك ربّما تحسين الرفاه. فيما أشارت الدراسات التي أجريت على توائم إلى وجود جانب جينيّ للمراس الذهني، يبقى من الممكن تعليم مهارات المراس الذهني وتنميتها. ويحصل ذلك عبر مجموعة من تقنيات التدريب على مهارات نفسية مثل الاسترخاء والتفكير الإيجابي ووضع الأهداف والأهم من ذلك كله، تقييم لمستوى المراس الذهني مع التعليق عليه.
وأحد الأمثلة هو مشروع تافر مايندز (عقول أشد مراسا) الذي تديره مؤسسة سالفورد وتموله مجموعة هيئة الخدمات الصحية الوطنية في سالفورد للتفويض السريري وهدفه تنمية المهارات غير الإدراكية –ولا سيما المراس- في ثلاث مدارس ابتدائية في سالفورد داخل مانشستر الكبرى. يركّز مشروع تافر مايندز على تلامذة تتراوح أعمارهم بين 9 و10 أعوام باستخدام نشاطات موجّهة للصف بأكمله أو لمجموعات صغيرة أو لكل شخص على حدة، تعلّمهم مثلاً صياغة عبارات إيجابية، وتحديد الأبطال والبطلات، ووضع أهداف فعالة. وأظهرت نتائج هذه النشاطات تغييرات إيجابية لافتة مثبتة في إحصاءات قياس مستويات الصلابة الذهنية والتحدي والثقة والتحكم بالعواطف والحياة.
ورد في العديد من الدراسات الحديثة وجود رابط بين قوة المراس والصحة النفسية. من الضروري بمكان عدم وضع الناس فجأة داخل أسوأ الظروف كي نتبيّن قدرتهم على الصمود من عدمها. والمدخل الصحيح بالتالي هو وضع تدابير تدخّل محددة ومصمّمة على قياس كل إنسان بعينه.
ولحظ الباحثون أنّ الحديث عن قوة المراس هو جزء من الحوار اليومي بين الشباب وبما أنهم يشعرون بأن هذا التعبير أقل أكاديمية من غيره، ربما يستلطفه الأطفال والمراهقون أكثر، ولا سيما أولئك الذين يصعب الوصول إليهم أو الذين يحتاجونه أكثر من الآخرين.
بيتر كلو أستاذ علم النفس في جامعة هادرسفيلد. ظهر هذا المقال للمرة الأولى في موقع ذا كونفرسايشن.
© The Independent