تفتح "اندبندنت عربية" ملف القرصنة في الصومال وتلتقي عددا من قادة القراصنة على سواحل الصومال وقرى ومدن ومحافظات منسية لا نعرف عنها شيئا. قراصنة جنوا المال وأصبحوا أغنياء، ثم تدهورت أحوالهم ليعودوا إلى نقطة البداية، وربما قبل ذلك، وهناك من يتغنى بتلك الأيام، وهناك من يحمد الله على زوالها، ولكن الوضع المتردي اقتصاديا وسياسيا وأمنيا واجتماعيا في تلك البقعة من العالم يجعل من إمكانية عودة القرصنة واردة جدا، بتقنيات جديدة ربما، وتحالفات بين قراصنة من الصومال ومن اليمن. ففي حين شهدت أعمال القرصنة انحسارا شديدا في السنوات الأخيرة، يلاحظ تخفيف الحراسة بل وإلغاؤها على عدد من السفن التي تمخر عباب البحر والمحيط، وعودة قوارب صيد الأسماك الكبيرة والأجنبية إلى سواحل الصومال وإلى مناطق نفوذ القراصنة.
سألنا أحمد، وهو قرصان قيادي سابق "هل يمكن أن تعودوا إلى أعمال القرصنة من جديد؟"، قال: "لا". ثم ضحك بعدها حتى بدت أضراسه الداخلية.
الطريق إلى معقل القراصنة
انطلقنا في رحلتنا البريّة من مدينة "هرجيسا"، عاصمة جمهورية صوماليلاند، المعلنة من طرف واحد شمال بلاد الصومال، صوب "آيل"، وجهتنا الأخيرة ومعقل القراصنة التقليدي في ولاية "بوتلاند"، ومررنا خلال تلك الرحلة بمحافظات عديدة وصولاً إلى محافظة "نوغال" في ولاية "بونتلاند"، حيث عاصمتها "غاروي"، وانطلاقا منها توجهنا إلى الجنوب الشرقي حيث بلدة "آيل"، الواقعة على مرفأ طبيعي على المحيط الهندي.
قطعنا أكثر من إحدى عشرة ساعة، خاضت سيارتنا طريقاً عبر مناظر طبيعية بديعة، تراوحت بين مناطق جبلية خضراء في الغرب، إلى سهول منبسطة تمتد فيما يبدو إلى ما لا نهاية، تتراءى في أطرافها هضاب منخفضة، ويحتضن خلال ذلك الأفق الذي تحده، قطعانا كبيرة منتشرة على طول المسافة، من الإبل والماعز والخراف، وقطعانا من الأبقار ترعى قرب تجمعات المياه التي خلفها موسم أمطار هذه السنة، الذي كان استثنائيا بالنظر إلى الأعوام السبعة الأخيرة.
ولأن صورة الصومال في العالم مقترنة بانهيار الدولة وعمليات القرصنة واختطاف البشر ثمّ طلب الفدى، فإن كثيرين لا يعلمون عن السياحة في الصومال شيئا. لا توجد إحصاءات رسمية تخصّ السياحة في الصومال، إلّا أن تقديرات أعداد السياح، حسب مركز "هرجيسا" للدراسات والبحوث، يقارب 200 ألف زائر، معظمهم من أبناء الصومال المهاجرين، وبشكل عام فإن قطاع السياحة عانى من التدهورـ تماما كأغلب القطاعات الاقتصادية الأخرى- نظراً لقلة الاستثمار وضعف صيانة المرافق والبنى التحتية في البلاد، على الرغم من وفرة المناطق السياحية الطبيعية كالشواطئ البكر، والجبال الخضراء التي تنساب منها الشلالات، ووجود العديد من ينابيع المياه الحارة، ومناطق الغطس، والآثار التاريخية الممتدة زمنياً خلال فترة تبدأ من العصر الحجري كمواقع "لاسغيل" و"طمبلن" الشهيرة برسومات الكهوف، إضافة إلى القلاع والحصون على طول الساحل وفي المناطق الداخلية.
يخضع الوضع الاقتصادي لظروف البنية التحتية الضعيفة، لذلك تتجه أغلب الفئات من أهالي الصومال إلى امتهان الحرف التقليدية، هكذا كان الصوماليون المقيمون في المناطق الساحلية منذ القدم، وإلى اليوم، يحترفون الصيد التقليدي. تكاد مداخيل الصيّادين لا تغطّي حاجياتهم الأساسية، كما لا تستطيع معدّاتهم نقل ما يصيدونه خارج بلداتهم نظراً لحالة شبكات الطرق السيئة، إذ لا تصمد شباكهم أمام تغوّل السفن الأجنبية وهي تخترق مياه الصومال الإقليمية.
يقول أحمد "لطالما أتلفتْ تلك السفن شباكنا البسيطة بسبب اقترابها منّا وسرقة خيراتنا". إنّ ذلك سبب من أسباب أخرى شكّلت إرهاصات صراع بين الصيادين وبين سفن الصيد الأجنبية، لتتحوّل إلى عمليات هجوم أصبح العالم يعرفها بالقرصنة.
تبلغ الحرارة في مدينة "غاروي" خلال هذه الفترة من السنة 29 درجة مئوية، تصعد أحياناً مقتربة من 40 درجة في أوائل فصل الخريف، وتقع المدينة في منخفض وسط تلال صحراوية. وتبعد عن بلدة "آيل"، وجهتنا الرئيسة، مسافة مئتي وبضع وعشرين كيلومتراً، إلّا أنه نظراً لوعورة أجزاء من الطريق، فإن الرحلة التي يفترض أن تستغرق ساعتين ونصف، تستغرق أربع ساعات ونصف في كل اتجاه "ذهاباً ثم إياباً"، نقطع كلّ هذا الطريق من أجل لقاء قراصنة صوماليين.
بعد كثير من الاتصالات والوساطات، يقرّر أحمد، ابن بلدة آيل، اللقاء بنا، شرط أن يكون أوّل لقاء لنا في مدينة غاروي، وهكذا كان. فأن تطلب اللقاء بقرصان سابق أمر مثير للريبة، كما أنّ عددا من الناس هنا يرفض هذا المسمّى، ليسوا قراصنة، هكذا قطعت "جوهرة"، أرملة قرصان سابق، حديثنا حين سمعت منّا ذلك.
التقانا أحمد، وهو قرصان قيادي سابق في مكان اختاره هو سلفا. بدا هذا الرجل القصير متوجّسا في البداية، ثمّ ما لبث أن استراح وهدأ. من الوهلة تشدّك نباهته، بعينيه الصغيرتين الحركيّتين، وهو يحكي بفخر عن نسبه المتّصل بالجيل الرابع لمهاجرين حضارمة، وعن جدّه البنّاء المشهور الذي بنا قلعة "آيل" بعدما طلب منه السيد محمد عبد الله الحسن ذلك، خلال حرب المقاومة التي خاضها ضد الإنجليز والإيطاليين في مطلع القرن الماضي. يبلغ أحمد اثنين وأربعين عاما، ويقيم مع زوجته وبناته الثلاث في حي شعبي من بلدة "آيل". امتهنت عائلة أحمد أعمال البناء والتجارة، ثم استقر أمرها في النهاية على صيد الأسماك، كان ذلك قبل سقوط الدولة في الصومال في بداية التسعينيات. بعيد ذلك، يحكي أحمد بأسف "منذ ذلك الحين بدأت أوضاع بلدتنا (آيل)، مثل باقي قرى الصيد، تتراجع بشدّة. وكان من أثر ذلك مغادرتنا مقاعد المدرسة بعد إغلاق عدد من المدارس، لذا كان جيلي الأكثر أميّة وجهلا. زاد سقوط الدولة انعزالنا في قرانا، وضاعف اعتمادنا على مهنة الصيد البحري، تلك المهنة التي لم تعد ذات مردود بسبب عجزنا عن نقل معظم حصيلة صيدنا إلى خارج بلداتنا، فأصبحنا نركز على أنواع قابلة للتجفيف يمكن تصديرها، مثل زعانف أسماك القرش. لكن لأسباب كثيرة تضرّرنا كثيرا".
سقط نظام محمد سياد بري عام 1991، فغابت الدولة في الصومال وغاب معها الدعم والرعاية للصيادين، وغاب حرس السواحل أيضا. حين ذلك استغلّت سفن صيد أجنبية الوضع فبدأت تتوغل في مياه الصومال الإقليمية شيئا فشيئا، إلى أن بدأت تعترض وتزاحم قوارب الصيادين الصغيرة، وقامت شباكها الضخمة بتجريف السمك نحوها، بل صارت تتلف شباك الصيد البسيطة وأقفاص الصيد والفخاخ التي كانت تنصب لأسماك القرش. يقول أحمد مستذكرا كلّ هذه الأحداث "حينها أصبح ضروريا أن نطرد تلك السفن، ومع تطوّر المواجهات واستخدام السفن مدافع الماء الساخن لإحراقنا وإغراق قواربنا، اضطررنا إلى حمل السلاح".
بدايات المواجهة
تقع الصومال على شريط بحري يمتدّ لثلاثة آلاف وثلاثمئة وثلاثين كيلومتراً، يطل على خليج عدن والمحيط الهندي، وتزخر المياه الإقليمية الصومالية ومصائدها بأنواع ذات قيمة اقتصادية عالية كأسماك جراد البحر، والتونة كبيرة العين، والتونة طويلة الذيل، وتونة الزعنفة الصفراء، والتونة الوثابة، واللمبوكة، والمرلين الأزرق، والشيم، واللخمة، والسردين، وسَيّاف البحر، والنهاش، وأبو ذقن، والمرلين الكاجيكي المخطط، وسمك القرش، وسمك الإمبراطور، والهامور، وسمك الناخر.
ويتم الإنتاج في المياه الصومالية عبر فئتين من أساطيل الصيد، إحداهما أسطول محلي من القوارب الحرفية المسجلة وطنيا، والثانية سفن صيد تجارية أجنبية، حسب تقديرات عام 2004، إذ كانت المصائد التقليدية التي يعمل فيها الصوماليون تنتج ما يصل إلى 6000 طن سنوياً، إضافة إلى سفن الصيد الأجنبية المرخصة من قبل الحكومة، إلّا أنّ الظروف الأمنية أدت إلى توقفها عن العمل، وكان إنتاج هذا القطاع نحو 13000 طن سنوياً في منتصف عام 2000. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الصيد غير القانوني وغير المنظم في المياه الصومالية يتم على نطاق واسع، ويعزى ذلك أساساً إلى النقص التام في القدرة على الضبط والتوثيق والمحاسبة، نظراً لعدم وجود دولة فاعلة بالشكل المطلوب حتى الآن، وعلى الرغم من ذلك فإن تقديرات القيمة السوقية لحصيلة الإنتاج السمكي في البلاد تقدر بـ364 مليون دولار أميركي، وتقدر عائدات التراخيص المحتملة بـ17 مليوناً، فيما يمكن تقديره بخمسة في المئة من إجمالي الناتج الوطني الصومالي.
يقول فارح، وهو قرصان سابق خلال لقائه بنا "كان الدافع الأول لمعظم من شارك في أعمال القرصنة منذ البداية هو ردع سفن الصيد الأجنبية المعتدية، ومع أنني لم أكن أحمل أي رغبة في الانتقام من أولئك الأجانب الذي يسرقون قوتنا ويخرّبون مصادر رزقنا، فإن اندفاع أبناء جيلي للوصول إلى أبعد مدى في مطاردة تلك السفن، والأموال التي بدأت تتدفق على أولئك المغامرين من الأصدقاء، جعل منطقياً بنظري حينها أن أشارك في رحلات القرصنة، وهكذا انخرطت في أعمال القرصنة منذ سنة 2001".
اتجّهنا جنوبا إلى خارج مدينة غاروي، نحو معقل القراصنة. كان الطريق غير معبّد وسيئ إلى حدّ كبير. ارتبط اسم "آيل"، البلدة البحرية عالميا بعمليات القرصنة. التقينا فارح في أحد بيوت الشاي بالجانب الغربي من البلدة، المعروف بـ"داوَد". يراوح فارح بدايات عقده الرابع، متزوّج وله تسعة أبناء، طويل القامة مع مسحة وسامة تظهر على ملامحه. يشتغل فارح على غرار كثيرين من الأهالي هنا صيّادا، لكن خلال موسم المانسون (فترة من السنة يُمنع فيها الصيد) يعمل مياوما في أعمال البناء والسمسرة. يقول فارح "أكسب قوتي معظم أوقات السنة من خلال ممارستي صيد الأسماك، باستخدام الشباك والقراقير وفخاخ أسماك القرش التي أنزع زعانفها وأجففها ثمّ أبيعها. في فترة المانسون أقضي كثيرا من الوقت في صيانة قاربي وأدوات الصيد التي سبق وتعرّضت للتلف".
ترك فارح كلّ شيء جانبا والتحق بصفوف القراصنة إبّان ذروتها، لم تكن القرصنة خيارا سهلا، كما يقول، فهي عمل فيه مخاطرة كبيرة، لكنّ الدافع إليه كان الشعور بالإحباط من الفقر، وعدم مبالاة العالم في الوقت الذي كانوا فيه من دون دولة. يؤكد فارح ذلك بالقول "أظن أن الانخراط في القرصنة كان محض رد فعل لا أكثر، فأنا شخصيا لم أتخيّل نفسي قرصانا في طفولتي، بل كنت أحلم بأن أنتهي من دراستي لألتحق بحرس السواحل مثل أحد أعمامي، لكنّ الأوضاع تغيّرتْ ولم يعد لأحلامنا مكان".
يقول محمد سعيد مري، وهو مدوّن وباحث صومالي "لقد أسهم نهب الثروة السمكية في الصومال، ودخول مركبات بحرية عملاقة تصطاد قرب السواحل إلى ظهور القرصنة بالصومال، لقد أدّى ذلك إلى فقدان أهالي المناطق طعامهم اليومي المفضل الذي هو السمك. لقد دُفعوا إلى القرصنة دفعا حتّى صاروا مجرمين في نظر العالم. لا أحد ينظر إلى الحقيقة الكامنة وراء القرصنة".
الهجوم ليلا على "ليلى علوي"
ظهرت عمليات القرصنة من "آيل"، كما باقي البلدات الأخرى، بصورة سريعة وعفوية، لذلك لم تعرف الظاهرة تنظيما وتواصلا بين القراصنة، حتى إنّ قوارب تخرج من البلدة الواحدة في اتجاه واحد دون أن يكون أحد على علم بتنقّل الآخر.
يقول أبشر، وهو قرصان قيادي سابق، التقينا به حاكيا لنا تفاصيل العمل والهجمات على السفن "كنّا في البدايات نعمل كعادتنا في رحلات صيد الأسماك، أي أن للقارب قبطاناً يكون خبيراً بالمياه ومواقع الصّيد، وغالباً ما يكون القبطان هو صاحب القارب بحد ذاته، فكنّا نخرج إلى البحر لاعتراض السفن بتلك الطريقة، لكن مع توسع أعمال القرصنة، وتوفر المال، أصبح بإمكان بعض القراصنة إعداد قوارب وتسليح عدد من البحارة عليها، لقاء أجرة محددة لهم، ليقوموا بالمهام بالنيابة عنه، في حين يبقى القرصان الرئيس على البرّ بانتظار الأخبار الطيبة، في ذات الوقت الذي يستعد فيه إلى عودة القارب وقد فقد رجاله أسلحتهم ومعداتهم، أو تعرضوا لحوادث العمل التي قد تكون نتيجة لمواجهة مع القوات البحرية أو مقاومة بعض السفن".
يضيف أبشر مجيبا عن تفاصيل النظام بين القراصنة "خروجنا للاستيلاء على السفن من بلدتنا (آيل) كان مماثلاً لرحلات الصيد المعتادة، يعني نتوجه إلى أماكن نتوقع فيها وجود هدفنا، أو نستفيد من معلومة يقدمها لنا فريق (عمل)، يتواصل معنا عبر هواتف (ثريا) أو صيادون عائدون من مواجهة مع سفينة صيد أو شحن، أو سفينة حربية. الأخبار كانت تصلنا هكذا، وعلى أساسها نقرر الانطلاق، وفي أقصى الحالات كنّا نحاول الاستيلاء على سفن الصيد الأجنبية الصغيرة، ونحاول الاستفادة منها لتنقلنا وقواربنا إلى مدى أبعد، بصورة آمنة أكثر، لكننا في بلدة (آيل) لم نبلغ من الدقة في التخطيط مبلغ بلدات أخرى كـ(هوبيو) و(غرعدي)، التي سمعنا في وسائل الإعلام عن قيام بعض فرق القرصنة الخاصة بهم، بالاتفاق مع ربابنة بعض السفن مسبقاً، ليقوموا بانتظارها في موقع محدد سلفاً، لقاء حصول القبطان على حصة من أموال الفدية، هذا سمعناه في الإعلام، وليس لديّ القدرة على النفي أو التأكيد".
تنوعت وسائل العمل وتطوّرت مع الوقت لدى القراصنة، حيث استخدموا في البدايات قوارب صيد صغيرة بمحرّك صغير وقدرة محدودة على حمل كميات الوقود والماء، تُسمّى "زحيمة"، كانت تقلّ بضعة رجال ما بين ثلاثة وخمسة. ومع تطوّر أحلام القراصنة طمعا فيما هو أكثر لجأوا إلى قوارب صيد أكبر، وبمحركات أقوى، هكذا استعانوا بقوارب أطلقوا عليها لقب "ليلى علوي"، في تشبيه لها بسيارات الدفع الرباعي التي حملت ذات اللقب، لأنها كانت قوية وسريعة وتنطلق إلى عشرات الأميال وسط أمواج المحيط. ورافق ذلك استبدال القراصنة لخبراتهم التقليدية في عمليّات القرصنة، وبدل الاعتماد على الشمس والنجوم في تحديد مواقع السفن وتحديد الاتجاهات، بدأ استخدام أجهزة تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية " GPS"، واستعانوا في التواصل بينهم على هواتف الأقمار الصناعية المعروفة بهواتف "الثريا"، بدلا من التواصل من خلال الراديو البحري الذي يسهل رصده من طرف القوات الدولية المحاربة لهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هاجم القراصنة في البداية السفن دون سابق تخطيط، من جانبها أظهرت طواقم السفن الأجنبية التي تتعرّض للهجوم الخوف الشديد. تغيّرت موازين القوى داخل البحر حتى أصبح القراصنة يركبون البحر في أي وقت تظهر خلاله سفينة أجنبية في الأفق. كان تعامل السفن مع القراصنة محفّزا لهم من أجل طلب المزيد، بعدما كانت السفن تلقي مبالغ بسيطة بأقل من 15000 دولار طلبا ودّ القراصنة. مع الوقت صاروا أكثر إصرارا على الانطلاق باتجاهها وإطلاق الرّصاص فوق برج السفينة، واصطحاب قاذفات "آر بي جي" وتلقيمها، والتلويح بإطلاق النار.
يكمل أبشر القصّة "مع الوقت أصبحنا نهاجم السفن، ونلقي بسلالمنا عليها متسللين حيناً، وتحت أنظار طواقمها أحياناً، وبعد صعودنا إلى سطح السفينة نطلب القبطان (ربان السفينة)، للتحدث معنا، ونبدأ بتحديد فدية عالية جداً، يحدث حولها التفاوض، بحيث يكون القبطان هو حلقة الوصل بيننا وبين ملّاك السفينة أو الشركة المشغلة لها، ولأن معظمنا لا يجيد لغات أجنبية، كنّا نستعين بأحد الشباب المتعلمين من أهالي المنطقة، ليلعب دور المترجم، ويتفاوض مع القبطان ومشغليه بالنيابة عنّا، لقاء نسبة معينة، ما يجعله حريصاً على عدم التنازل كثيراً في قيمة الفدية المطلوبة".
في الحاجة إلى ترجمان
بعدما انسحب من لقائنا الأول في مدينة غاروي متوجّسا، عاد واستجاب بعدما تدخّل شخص ثالث ليوافق على إجراء مقابلة لنا شرط أن تتمّ عبر الهاتف. يبلغ "عبد الفتاح" 28 عاما، اشتغل سابقا مدرس لغة إنجليزية ويقيم حاليا في مدينة غالكعيو. يعمل حاليا في التجارة ما بين دبي ومدن ولايتي بونتلاند وغلمدغ.
كان عبد الفتاح متفوّقا في الدراسة، وبخاصة في اللغة الإنجليزية، ما ساعده على تقديم دروس الدعم في هذه المادة لصالح التلاميذ الصغار، هكذا ذاع صيته في الحي وعند أقربائه كأفضل من يتحدث الإنجليزية في المنطقة، فصار بعد ذلك مطلوبا لدى المنظّمات ليقوم بالترجمة خلال اللقاءات وأثناء مشاريع الإغاثة، وكذلك مرافقة الصحافيين الأجانب في حال احتاجوا مترجما. ومع تطوّر عمل القراصنة صارت الحاجة إليه ماسة من أجل التفاوض مع أطقم السفن المختطفة.
يقول عبد الفتّاح في هذا الصدد "شهرتي كمتحدث جيد بالإنجليزية وشاب يمكن الاعتماد عليه رغم صغر سني (18 سنة وقتها) جعلت بعض أقربائي الذين كانوا على صلة بالقراصنة يقترحون أمر العمل معهم، ولكنني كنت غير مرتاح للتورط في هذه الأعمال التي كان علماء الدين وشيوخ القبائل ينددون بها وبتأثيرها السلبي على المجتمع، لذا ترددت لفترة من الوقت، لكن مع ازدياد إصرار أقربائي على ضمي، وإقناعي بفكرة أنني لن أقوم بعمل غير قانوني، فأنا مجرد مترجم، وسأحصل على آلاف الدولارات في المهمة الواحدة مقابل بضع مئات دولارات كنت أجنيها من العمل شهراً كاملاً، بدا الأمر مغرياً جداً، بخاصة وأن السلطات المحلية في ولاية (غلمدغ) كانت ضعيفة، بحيث تعجز عن ملاحقة القراصنة ناهيك بأن تنشغل بأمر مترجم بسيط مثلي".
يضيف عبد الفتّاح "بدأت العمل كمترجم من على البر دون حاجة لأن أركب البحر في البداية، وكانت مهمتي أن أنقل توجيهات رئيس فريق القرصنة إلى قبطان السفينة المأسورة، ومن ثم نقل طلبات القراصنة إلى القبطان، ومع الوقت تطوّر عملي بحيث أصبحت أتفاوض مع الشركات المالكة للسفن وشركات التأمين حول المبالغ المطلوب دفعها لإطلاق سراح السفن، وطرق تسليم الأموال التي كنّا نحرص على أن تكون نقدًا، وأن لا تكون تلك الأموال تحمل علامة مميزة تمنع تداولها، أو التحقق من عدم وجود ما قد يؤدي إلى تتبعنا لدى استلام الأموال ونقلها إلى النقطة التي يحددها رئيس فريق القرصنة لمباشرة توزيع أنصبة كل من شارك بالعمل من الغنيمة".
شارك عبد الفتّاح ترجمانا في خمس عمليات تفاوض كبيرة، وقد أهّله إلى ذلك الخبرة الكبيرة التي اكتسبها، مما جعله يتفاوض من أجل نسبة من مبلغ الفدية يتم تحديدها مع فريق القراصنة، بدل الأجر المحدّد الذي كان يتحصّل عليه في البدايات. يتمم عبد الفتّاح "كان التسليم يتم إما إلى البر بواسطة طائرة هليكوبتر تحمل شبكة داخلها المبلغ المتفق عليه، أو في عرض البحر، حيث يتقدم قارب سحب Tug Boat ، وأنطلق إليه بقارب يحملني أنا وبحارا والمسؤول عن الحسابات في فريق القرصنة، حتى لا يتم اعتراضه من قراصنة آخرين، والتفاصيل كثيرة لكن يمكنني أن أؤكد لك أنني عملت ما بين 2009 و2011 في إنجاح مفاوضات على خمس سفن، الأولى يونانية تسلّمنا مقابل تحريرها 13 مليون دولار، والثانية بريطانية، تحصّلنا بفضلها على 5 ملايين دولار، والثالثة إيطالية مقابل 3 ملايين دولار، والرابعة سعودية مقابل 12 مليون دولار، والأخيرة دانماركية، حيث تسلمنا مقابل تحريرها فدية 12 مليون دولار".
تكبّدت شركات التأمين خسائر فادحة جرّاء عمليات القرصنة، والتي تُغطّى في البند (أ) من وثيقة التأمين البحري، حيث تُعوّض شركات التأمين ملاك البضائع التجارية عن الخسائر المالية المترتبة نتيجة أعمال القراصنة. بيد أنّ تأمين السفينة وآلاتها يغطى عادة تحت وثيقة الاختطاف ودفع الفدية المخصصة لتغطية مخاطر هجمات القراصنة.
حسب نشرة "محيطات بعيداً عن القرصنة"، الصادرة عن "الغرفة الدولية للنقل البحري ICS"، فإن تقديرات تكلفة التأمين على أنشطة الشحن البحري لعام 2010 تراوحت ما بين 460 مليونا و3.2 مليار دولار أميركي، مما يدلّ على التأثير الكبير لتلك الأعمال على أنشطة النقل البحري. يقول السيد ليبان محمد عيسى، مدير التسويق لدى شركة (أفريقيا للتأمين التكافلي) "تعاملت شركات التأمين مع حالات القرصنة ما بين الدخول في إجراءات شديدة التعقيد قانونياً ومالياً مع الجهة المالكة للسفن التي تعرضت لحوادث القرصنة، في سبيل تعويض تلك الجهة المالكة عن خسائرها التي يُفترض أنها مغطاة في وثيقة التأمين، في حين أن غيرها من شركات التأمين اعتمدت أساليب أخرى، كان الدخول في تفاوض مع فريق القراصنة ثمّ تسديد مبلغ الفدية المتّفق عليه بين الجانبين.
أثر مال القرصنة على الأرض
نزور أحد أحياء الصفيح من قسم بدي من آيل، تبدو علامات الفقر واضحة ومتجذّرة هنا، بُنيت أغلب المنازل من القصدير. كانت الحاجة والعوز الحالة العامّة لأهالي يمتهن أغلبهم مهناً بسيطة كان أكثرها شيوعا الصيد التقليدي، لكن مع نموّ عمليات القرصنة ومعها عائدات الفدى، أدخل القراصنة طابعا حياتيا جديدا، قلب الحياة في هذه الأنحاء رأسا على عقب.
نلتقي جوهرة، وهي أرملة قرصان مفقود اسمه عبد العزيز، امرأة طويلة القامة تبدو على ملامح وجهها آثار السنين، فالزوج المعيل اختفى بعد ذهابه في أوّل خروج له للقرصنة ثمّ اختفى أثره، كان ذلك في 2009. تقول أخبار كثيرة عنه إنّه مات في البحر. تعيل جوهرة أبناءها الثمانية وهي تدير محلّا للشاي تقدّم فيه إفطارا بسيطا مكوّنا من عصيدة الشوفان والخبز والمعجّنات المقليّة.
لم تمنع ظروف الفقر والحاجة أن تستقبلنا جوهرة بأكواب الشاي اللذيذة راسمة على وجهها ابتسامة ترحيب بنا. ستختفي الابتسامة عن وجهها فجأة حين سألناها عن زوجها القرصان، رافضة وصف فقيدها بذلك، تقول "لم يتحمل زوجي أن يرانا نعاني الجوع وقسوة الحياة التي تزداد في البلدة، لذا قرر مع اثنين من أصدقائه إخراج ما لديهم من أسلحة، وكانت بندقية (كلاشنكوف) و(مسدسين)، وأن ينطلقوا بقارب صيدهم الذي لم يعد مفيداً، لعلهم يعودون بما يمكننا من مواجهة الظروف القاسية التي نعيشها، أو نجد ما يمكننا أن نغادر به بلدتنا ونبدأ حياة جديدة في مكان آخر، لكن ذلك لم يحدث، (عبد العزيز) و(محمد فارح) و(نور حسن) خرجوا في ذلك اليوم ولم يعودوا، ولا زالت الزوجات والأمهات يتساءلن عن مصيرهم ولكن لا مجيب!".
يبدو أثر مال القرصنة ظاهرا، لقد هدم القراصنة منازلهم القصديرية القديمة وشيّدوا محلّها منازل عصرية ذات طوابق، وشاعت على الطرقات سيارة "سوزوكي SUZUKI"، السيّارة رباعيّة الدفع المفضّلة لدى أغلب القراصنة، فهي من جهة صغيرة الحجم، وثانيا لها القدرة على الصمود أمام الطرق المهترئة، والأماكن الوعرة التي تشكل التضاريس المحيطة ببلدة آيل. لقد أغرى المال أناسا آخرين، هكذا بدأت أعداد القراصنة في الارتفاع بشكل ملحوظ.
تستطرد جوهرة "المشكلة الحقيقية كانت حين بدأت أموال القرصنة تتدفق، لقد تعطل الصيد من جهة، وأصبح الصيادون المحتفظون بمهنتهم لا يملكون شيئاً، في حين أن الذي تحولوا إلى قراصنة يعبثون بالأموال، هذا هو سبب تفشي القرصنة وانضمام الصيادين الشرفاء إليها".
تضيف بحسرة "القرصنة تسببت في أن أفقد والد أطفالي، وأن أعاني وحيدة في بلدة أصبحت حينها مرتعاً للفاسدين، تصوّر أنه كانت هناك أسر في هذه البلدة توشك على الموت جوعاً، في حين ينفق القراصنة أموالهم على شحنات القات والسيارات والخمور والمخدرات والنساء الفاسدات التي كانوا يأتون بهن من أقاصي بلاد الصومال، كنّا نحاول منع أطفالنا من الخروج إلى البساتين المحيطة بنا، حتى لا تقع أعينهم على مناظر أولئك الفاسدين الذين لا يعني الخجل لهم شيئاً، لقد حولوا بلدتنا إلى جحيم حقيقي".
من كان يتصوّر أنّ الصيّاد الذي كان بالأمس القريب يقيم الفخاخ في البحر لاصطياد أسماك القرش، ثمّ يقوم بتجفيف زعانفها، ثمّ بيعها مقابل بضع دولارات، يستطيع التحصّل في ليلة واحدة على عشرات آلاف الدولارات.
ماذا جنيت من عمليّات القرصنة؟ كان ذلك سؤال لجميع من صادفناهم من القراصنة السابقين. يجيب فارح "في عملية الاستيلاء على سفينة (دارين إس إل)، التي شاركت فيها، كان نصيبي وحدي 700 ألف دولار أميركي". اجتهد فارح من أجل مضاعفة أرباحه، فجهّز فريقا خاصا به مكوّنا من اثني عشر قرصانا وأمدّهم بالأسلحة اللازمة، وأنفق أموالا كثيرة في شراء قارب كبير وزوّده بأفضل المحرّكات وجهاز تحديد مواقع من النوع الجيّد، وبكثير من المؤن والوقود ليصل إلى أبعد مدى. يكمل فارح قصّته التي انتهتْ بإفلاسه "تكاليف الفريق لم تكن تقف عند ذلك الحد، فقد كان من واجبي دفع رواتب الأفراد إن لم تكن هناك عمليات خاصة في الفترة ما بين أواخر يونيو (حزيران) وبدايات أكتوبر (تشرين الأول)، خلال فترة المانسون، وكذلك كان من واجبي إعالة أسر كل عناصر فريقي، وكل ذلك كان بتكلفة عالية جعلتني أخسر كل ما جمعته، بخاصة مع تكرار تعرض رجالي لملاحقة السفن الحربية التي كانت تكافح أعمال القرصنة، وهو ما أدّى إلى إلقاء الرجال الأسلحة والمعدات في عرض البحر مراراً، مما كان يكلفني آلاف الدولارات في كل مرة، حتى ضاق الخناق على كل أعمال القرصنة، وتعرضتُ للإفلاس، لأعود كما كنت في سابق عهدي صياداً بسيطا يبذل جهده ليجني قوت أسرته يوماً بيوم".
لقد أسرف القراصنة في إنفاق أموال القرصنة بشكل جنوني على الممنوعات، فانتقل الوضع من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش. يضيف أبشر "في مناسبة جنيت مالا من سفينة، وأنفقتُ في يوم وليلة 31 ألف دولار أميركي، وعشرات الآلاف من الدولارات ساعدت بها أصدقاء لي من أجل الهجرة إلى فرنسا".
ما تزال هياكل عربات مهترئة في الرّمال يأكلها الصدأ تحكي عن نهايات قراصنة في هذه البلدة، لكلّ قصّة تُحكى. ما يزال الناس في هذه البلدات يحكون بنهم عن حالة البذخ الصادم التي انخرط فيها القراصنة. أُسر كثير منهم، وهرب أوْ قُتِل آخرون. وكثير ممّن صادفناهم أو حُكيَ لنا عنهم أفلسوا بعدما صرفوا آلاف الدولارات بطريقة جنونية وغير مفهومة. يقول أحمد إنّ "تلك الأموال كانتْ لعنة عظيمة علينا. لعنة تشبه الحلم والكابوس في آن واحد".
وإذا كان مصير أحمد وفارح الإفلاس، فإنّ أبشر جرّب الأسر بعدما تواجه مع فرقاطة فرنسية في خليج عدن، كانوا حينها بعيدين عن "آيل" مما سهّل رصدهم. هوجم القارب، فأصيب أحد رجال "أبشر" إصابة قاتلة، وألقى ثلاثة آخرون بأنفسهم في الماء، ليستسلم مع تسعة آخرين ليتم تسليمهم إلى السلطات اليمنية التي سجنتهم لثماني سنوات. كشف لنا "أبشر" عن يديه وهي تحمل بقايا جروح بارزة، ثمّ حكى لنا "كانت تجربة الأسر شديدة، نتيجة للمعاملة شديدة القسوة التي لقيناها من البحرية الفرنسية، فأنا شخصياً تم تعذيبي بشد الوثاق على يدي الاثنتين حتى انقطعت الدماء عنهما لعدة أيام، هذا أدّى إلى أذى كبير أصاب يدي، فغدتا شبه مشلولتين لعام كامل، عجزت عن استخدامهما، وبقيت لسنوات في السجن أحاول الحصول على العلاج لكن ذلك كان متعسراً".
وما تزال جوهرة تمنّي نفسها بيوم تسمع معه أخبارا سارّة عن رجل حلم أن يكون قرصانا، فخرج في أوّل عمليّة له، ولم يعُدْ.
هل يعود نشاط القرصنة؟
نكاد نشعر بذلك النفور تجاه نشاط القرصنة من طرف من صادفناهم في بلدة "آيل"، وهو نفور مرتبط بحالة الفوضى التي رافقتْ تدفّق أموال القرصنة والانحرافات المشينة التي اخترقت حياة أناس بسطاء ومحافظين، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة عدم عودة نشاط القرصنة إلى الحركة، خصوصا إذا تراجعت التدابير المحلية والدولية والتي حدّت من ظاهرة القرصنة.
يقول عباس محمد صالح، باحث مهتمّ بالسياسات الإقليمية "انحسرت القرصنة، ولكن شبكات القرصنة مستمرة، بدليل أن تهريب البشر والأسلحة عبر البحر الأحمر متواصل رغم الحضور العسكري الدولي. لن تتوقّف ظاهرة القرصنة في سواحل الصومال إلا باستعادة الدولة المركزية وتقوية مؤسسات الحكومة الفيدرالية من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز قدرات الأقاليم والمناطق التي تتّسم بالهشاشة اقتصاديا وأمنيا".
سألنا أحمد هل يمكن أن تعودوا إلى أعمال القرصنة من جديد، قال: "لا"، ثم ضحك بعدها حتى بدت أضراسه الداخلية. "يبدو من جوابك هذا أنك غير متأكّد"، سألناه من جديد. ضحك مرّة ثانية، وفهمنا أنّه لا يريد الجواب.