منذ أن خرجت الثورة السودانية من مخاض انسدادها بالاتفاق التاريخي حول الإعلانين السياسي والدستوري في أغسطس (آب) الماضي، كان واضحاً أن قوى الثورة المضادة خسرت جولة في الحرب.
وتنعكس اليوم، تعبيرات قوى الثورة المضادة عبر واجهات كثيرة لصحافيين وسياسيين ورجال دين وأصحاب مصالح شتى، بهدف إعادة عجلة الزمن إلى الوراء. بطبيعة الحال، تعرف "قوى الحرية والتغيير" كتحالف حاكم، أن ردود فعلها حيال تصفية إرث "الإنقاذ" لا يمكن أن تكون بـ"التمكين" المضاد، كما فعل انقلاب الإنقاذ حين سرق الرئيس السابق عمر البشير السلطة بالانقلاب على الديمقراطية في عام 1989، ومارس تلك النظرية التي أفرغت الخدمة المدنية وضربت كل مؤسسات الحياة المدنية في السودان، عبر إحلال أهل الولاء محل أهل الكفاءة. وكانت النتيجة أن باتت المؤسسات المدنية العامة للسودان معهم أطلالاً بعد 30 سنة من الخراب.
ويرى البعض ذلك الالتزام كما لو أنه تساهل مع رموز سلطة "الإنقاذ"، في حين أن كثيرين من هؤلاء، لا سيما من الصحافيين لا يزالون يمارسون عملهم ويعملون على نقد الحكومة المنبثقة من السلطة الانتقالية (يرأسها عبدالله حمدوك) مستغلين أجواء الديمقراطية التي تعيشها البلاد.
وتنطلق أصوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، محاولةً تركيب مزيج من المعلومات والأحداث تركيباً فقيراً للتشويش على طبيعة المرحلة وتحدياتها، وللمراهنة بالتالي على تعثر المرحلة الانتقالية.
ولعل أبرز الأصوات عبر وسائل التواصل تلك، تسجيل "واتساب" من دون اسم (لكن صاحبه معروف للمتابعين والمهتمين) يروّج لتحليلات قد يوحي ظاهرها بالأهمية، لكن باطنها يضمر فقراً وقفزاً على الحقائق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تسجيلات مهينة
وحين يتحدث عن فصل الجنوب كمؤامرة غربية أميركية من دون ذكر الحيثيات الصلبة للتاريخ المخزي لنظام البشير الذي جعل من الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثالثة في بلادهم عبر قوانين تمييزية وعنصرية، فهو كذلك يهين ذكاء الشعب السوداني. وحين يتحدث صاحب التسجيل عن بعض السياسيين بأنهم "علمانيون" ليوحي بسلبية تجاههم يتوخى منها إدراج أصحاب ذلك الوصف في خانة تعييرية فقط، فهو كذلك يهين ذكاء الشعب السوداني.
وحين تتحدث تلك الأصوات عن لوبيات ضغط في خلفيات القرارات السياسية لحكومة السلطة الانتقالية، أو عن موازين قوى ومراكز صراع سياسي في برامج القوى السياسية للثورة، تظن نفسها أنها تعيد اكتشاف العجلة، فيما الحقيقة التي تتعامى عنها تلك الأصوات النشاز هي أن ذلك الحراك السياسي لقوى الثورة هو جزء من معنى انفتاح السياسة بعد امتناعها لثلاثين سنة، وأن الشعب السوداني منذ أن قام بثورته العظيمة أصبح أكثر يقظة ووعياً بمعنى وحيثية الثورة التي ظل يسهر على مسارها بالرقابة والمتابعة والنقد.
الرهان على وعي الشعب
ولكن هل هذا يعني أنه ليست هناك مؤامرات تُحاك ضد الثورة؟ بطبيعة الحال لكل ثورة، ثورة مضادة، لكن منسوب صراع التناقضات بين الثورتين هو الذي يحدد طبيعة القدرة على التغلب وعلى رؤية المصير السياسي للثورة حتى في أحلك اللحظات.
لقد خرج الشعب السوداني طوال الشهور الماضية، من هزات كبيرة استهدفت ثورته، لا سيما منذ فض اعتصام مبنى القيادة العامة للجيش في 3 يونيو (حزيران) الماضي. لذلك، فإن تلك الأصوات التي تستغل مناخ الحريات لكي تشوش على الثورة سنجد في كلامها ثغرتين واضحتين، الأولى وهي تصوير صراع الأطراف السياسية بمعزل عن ثورة الشعب السوداني، للإيحاء بغياب دور الشعب وبالتالي غياب أي ذكر للثورة. والثانية السكوت عن جرائم نظام "الإنقاذ" وخطاياه العظيمة في حق الشعب والحديث عن حزب "المؤتمر الوطني" من منطلق سياسي عادي.
في المقابل، يملك الشعب السوداني قدرةً على تحصين الثورة لا يمكن أن يزايد عليها أحد. وكل مَن يتحدث عن قضايا الواقع السياسي ويخوض في تحليلاته بمعزل عن الفارق الكبير الذي أحدثته الثورة من خلال تحقيق وعي السودانيين إلى مصيرهم السياسي، سيكون حديثه ذلك حديث خرافات.
إن القدرة على التحليل الرصين للحراك الثوري في السودان لا يمكن أن تنطلق من أصوات نشاز، تتخيل الشعب السوداني كبيادق في لعبة شطرنج، وإذا ما ظن البعض ذلك وراهن عليه فرهانه خاسر!