لماذا الترجمة الأدبية؟ يجيب كليفورد لاندرز بمثل تطبيقي؛ في كتابه "الدليل العملي للترجمة الأدبية"، الذي صدرت ترجمته العربية عن المركز القومي المصري للترجمة في القاهرة بتوقيع خالد توفيق. تطبيق لاندرز في هذا السياق تمثَّل بقصة قصيرة لروبيم فونيسكا عنوانها "جولة ليلية بالسيارة"، ترجمها من اللغة البرتغالية إلى اللغة الانجليزية. السرد فيها بضمير المتكلم، إذ يحكي بطلها واقائع لم تستغرق سوى نحو الساعة، وتبدأ من عودته ليلا من العمل إلى منزله حيث يعيش مع زوجته وابنيه وخادمة. يقترح على زوجته بعد أن تناول العشاء أن يخرجا معاً في نزهة بسيارته، فترفض وهو كان يتوقع رفضها. يخرج السيارة من المرآب ويتحرك بها من دون أن يحدد وجهة معينة. بدا انه اعتاد ذلك. يتوجه إلى شارع مهجور في مدينة أفيفيدا (البرازيل) والتي يزيد فيها عدد البشر على عدد الذباب، على حد وصفه. وفي ظل إضاءة خافتة يلمح امرأة تمشي مسرعة فوق الرصيف، فيصعد باتجاهها ليصدمها، ثم يتركها تنزف، ويعود إلى منزله لجد زوجته وابنيه يشاهدون التلفزيون. تسأله زوجته: "هل تشعر بتحسن بعد تلك النزهة؟"، فيجيبها: "تصبحون على خير، فلديَّ الكثير من العمل في مكتبي غداً". يورد المؤلف القصة نصا، ثم يجيب على السؤال الذي سبق أن طرحه بالقول: "إن الترجمة الأدبية هي النوع الوحيد من بين أنواع الترجمة الأخرى التي تجعل المرء شريكا في العملية الإبداعية". طبعا الإجابة تلك انطلقت من ترجمته قصة فونيسكا، ويقول: "لا شك أننا نحب أن نتشارك مع الآخرين في هذه المتعة المستمدة من قراءة هذه القصة القصيرة البسيطة، ولكن المكتملة الأركان، ولكن إذا كانت مكتوبة بلغة أخرى، فإن هذه المتعة ستقتصر على أولئك الذين يعرفون هذه اللغة". ويضيف: "قدم الكاتب في هذه القصة القصيرة فكرة الشر المبتذل بإيجاز محكم، فتحس معها أن كل لفظ مستخدم في مكانه الصحيح، وأن كل تفصيلة من التفاصيل تضيف لتلك الصورة السريعة التي يقدمها الكاتب للمكان والشخوص، ولكنها مفهومة بالقدر الذي يجعلك تتوقف عند فكرة فهم الآخر بالقدر المطلوب. وهذا العمل الأدبي ظاهره البساطة، وفي باطنه ذلك التعقيد الذي يبقي القارئ ويملك عليه لبه لفترة طويلة بمجرد أن ينتهي من القراءة، وهذا العمل وغيره من الروائع في اللغات المختلفة، دليل دامغ على أهمية ترجمة الأعمال الأدبية".
ويعتقد لاندرز أن الترجمة الأدبية هي النوع الوحيد من الترجمة الذي يجعل المترجم يمر بالمتعة الجمالية التي لا يحصل عليها الإنسان إلا عند التعامل مع الأعمال الأدبية العظيمة، وكما يقول الروائي الهولندي سيس نووتبووم إن هذه ىالمتعة ينتج هنها إعادة إنتاج هذا العمل الإبداعي لغويا (ترجمته) ولكن تظل قيمته الكبرى بلغته الني كُتِبَ بها.
وفي السياق ذاته يرى لاندرز أن مترجم الأعمال الأدبية يستطيع أن يزيد جمهور قراء عمل أدبي كُتب باللغة الفنلندية من خمسة ملايين إلى نصف مليار، وهم الذين يستخدمون اللغة الانجليزية كلغة أولى أو كلغة ثانية. فترجمة عنوان قصة "نزهة ليلية بالسيارة من البرتغالية “Passeio Noturno” إلى الإنجليزية “Night Drive” زاد عدد قراء هذا العمل أربعة أضعاف. وهذا بدوره يجعل العمل الأدبي متاحا للطلاب والباحثين في مجال الأدب المقارن. كما أن هذا العمل المترجم يمكن أن يكون باكورة إنتاج لعمل مترجم آخر إلى لغة ثالثة.
والكتاب الذي يتألف من 403 صفحات يبدأ بكلمة للمترجم خالد توفيق يدلل فيها على أهمية عمل لاندرز لجهة أن المكتبة العربية والغربية تزخر بالكتب التي تتكلم عن نظريات الترجمة وأساليبها، ولكننا لا نجد العدد نفسه من الكتب التي تتكلم عن التطبيق. ويضيف أن الكتاب يعد إضافة إلى المكتبة العربية التي مازالت تفتقر إلى الكتب التي تتحدث عن مشكلات الترجمة الأدبية وأساليبها، كما أنه لا غنى عنه ليس فقط لمن يتصدى لهذا النوع من الترجمة، وإنما لكل المترجمين؛ لأنه يناقش الكثير من الأمور المتعلقة بالمترجم، وعملية الترجمة، بصدق وخبرة، وبصيرة نافذة.
والجدير ذكره هنا أن لاندرز – بحسب المترجم اكتوت أصابعه بنار الترجمة الأدبية، فقد قام بترجمة اثنتي عشرة رواية وعدد كبير من القصص القصيرة من البرتغالية إلى الانجليزية، وهو يجعله قادرا على سرد عشرات الأمثلة للكلمات والعبارات الإشكالية، وذكر أساليب حل هذه الاشكاليات. والمشكلات التي يذكرها لاندرز هي تلك التي يواجهها المترجم على أرض الواقع، وليست المشكلات المفترضة أو المتخيلة، والتي لا يجدها المترجم تلائم ما يمر به من مشكلات شبه يومية.
عمل معقد
وبالرغم من أهمية الترجمة الأدبية، إلا أنها كما يقول لاندرز لا يمكن أن تكون مصدر الدخل الوحيد للمترجم. وإلى الأهمية، مقارنة بالأنواع الأخرى من الترجمة، تظل ترجمة الأعمال الأدبية وخصوصا الشعر، عملاً شديد التعقيد. وفي ذلك يقول لاندرز: "أحسسنا لوهلة أثناء قراءة الأدب المترجم أننا تقرأ ترجمة ، وليس العمل الأصلي، فهذا قدح في الترجمة والمترجم". ومع ذلك يرى لاندرز أن على المترجم أن يتواضع؛ لأنه لن يستطيع مهما بذل من جهد أن ينقل لك ذلك البهاء والرونق اللذين يتسم بهما العمل الأدبي الأصلي. كما يلاحظ لاندرز أنه منذ ظهور أقدم نسخة يونانية من "العهد القديم"، لا نجد ترجمتين متطابقتين لعمل أدبي. هذا فضلا عن أن الترجمة هي فن يطويه النسيان. يقال إن نصف عمر أي ترجمة يتراوح بين 30 و40 عاما، إذ أنه بمرور تلك المدة تفقد نصف حيويتها ونضارتها وقدرتها على مخاطبة القارئ بلغة عصره. ويرى لاندرز أنه إذا افترضنا صحة هذا الكلام، فهذا يعني ببساطة أن الأعمال الأدبية يجب أتن تعاد ترجمتها من فترة إلى أخرى، كي تحافظ على وظيفتها كجسور بين الثقافات والحقب التاريخية المختلفة.
وفي موضع آخر من الكتاب، يعلق لاندرز على قول جون بيستر إن الترجمة تعني محاولة النقل الأمين لنص أجنبي وما به من معنى ومشاعر وأسلوب قدر المستطاع، إلى لغة أخرى، بأن هذا كلام مثالي، فالترجمة كالسياسة هي فن الممكن، وهذا يعني أن الحلول الوسط حقيقة لا مراء فيها في كل اللغات والثقافات.
ويلاحظ كذلك أن شكسبير ينتمي إلى فترة اللغة الانجليزية الحديثة، ومع ذلك لا يستطيع الكثير من القراء في القرن الحادي والعشرين فهمه إلا بعد الاستعانة بالقواميس. أما اللغة التي يكتب بها الشاعر الانجليزي تشوسر فهي أقرب للغة الأجنبية، فقصيدة "بيوولف" على سبيل المثال تجب دراستها لغويا بشكل جاد، وهذا يجعلنا نقول إن خلود أي شاعر يرجع لاستخدامه لغة لا يصيبها الكثير من التغيير مع مرور الزمن.
نحن لا نستطيع - يقول لاندرز- ويجب علينا ألا نعيد كتابة اللغة الانجليزية التي كان يستخدمها شكسبير أو مارفل. وسوف نكون أصحاب حظ عظيم إذا استطعنا أن نعيد ترجمة ثيرفانتس بالإسبانية، وأعمال فيلون بالفرنسية، ولا يجب علينا أن نتوقف كثيرا أمام الحقيقة التي تقول إن كل الترجمات مآلها إلى التقادم؛ لأن القيمة المستقبلية لهذه الترجمات تكمن في أنها عبَّرت عن الطريقة التي نتكلم ونفكر ونكتب بها في زماننا. كما أن الترجمة الجديدة، مثل ترجمة وارنر لتاريخ ثوكيوسيديس تعيش أطول بكثير من عمر صاحبها. وفي غير موضع من الكتاب يشدد لاندرز على ضرورة عدم توقع جني ثروة طائلة من ترجمة الأعمال الأدبية، بما أن ذلك أمر نادر الحدوث في الواقع... "وإذا حسبنا الأمر بالساعة، فالأجر الذي ستحصل ليه من إعداد سندوتشات البرجر في ماكدونالدز، سيفوق الأجر الذي تحصل عليه لو ترجمت أعمال بروست"!
موهبة ومراس
من المؤسف أنه لا توجد برامج لتدريس الترجمة الأدبية، كما توجد نسبة ضئيلة من التدريب على هذا النوع من الترجمة في عدد من برامج الترجمة في المعاهد والجامعات... "ومع ذلك لا يوجد نوع محدد من التعليم يمكن أن يكشف لك عن هذه الموهبة أو أن يمنحك إياها إذا لم تكن تملكها" صـ79. هل يعني ذلك أن المرء يمكن أن يكون مترجما أدبيا بالفطرة؟ يجيب لاندرز: "لا يوجد إنسان يولد مترجما أدبيا بالفطرة، كما لا يوجد إنسان يولد وهو يتكلم الصينية أو الانجليزية، فهذه كلها مهارات تكتسب، فإذا كان الإنسان لا يجيد لغتين إجادة تامة، فلن يأخذ القدر بيده ليصبح مترجما. لكن تبقى الموهبة عنصرا مهما، وهي لا تدرَّس، فالكاميرات باهظة الثمن لا تصنع مصورا، وكذلك لا تصنع القواميس وأكوام الكتب مترجما".
وبعد ذلك تبقى السمة المميزة للترجمة الناجحة هي "أن تبدو غريبة، ليس لركاكتها، ولا للجهل بدهاليز اللغة الأصلية، ولكن لأنها تعبر عن شيء جديد"، بحسب ما نقله لاندرز عن مراد نعمت نجاة. ويعلق لاندرز على ما سبق بقوله: "لا يجني المرء شيئا من وراء تحريف ترجمة معينة؛ كي تبدو غريبة. أقر وأعترف بواجب المترجم تجاه المؤلف بنفس القدر الذي أؤمن به بواجب المترجم تجاه القارئ، ولكني أؤمن بأن المترجم الملتزم بالنص المنتج (أي الترجمة) أفضل ممن يلتزم التزاما صارما بالنص الأصلي في ما يتعلق بالقيام بهذين الواجبين" صـ119.
هل تبدو الأعمال الأصلية لبوشكين وبودلير وإبسن غريبة؟ "يقينا تتسم هذه الأعمال بالرقي، وقطعا تتسم بالإلهام، أما بالغرابة فهذا أمر غير مستبعد، ولا شك أن الترجمة الحرفية لأي أديب من الصف الأول سوف تجعله يبدو معقد اللسان، وكأنه يتكلم لغة أجنبية، وحتى في حديثه بهذه اللغة الأجنبية، يبدو ضعيفاً. أنا مقتنع بن المقاومة من هذا النوع تضع الاعتبارات الثقافية والأكاديمية قبل الاعتبارات الأدبية والجمالية، وهذا يشوه قدرة القارئ الذي ينتمي للغة أخرى على فهم المؤلف، وبالتالي لماذا نتحمل مشقة ترجمة روائع الأدب من اللغات الأخرى إذا كانت المحصلة النهائية هي ترجمة حرفية لا روح فيها؟".
ويرى لاندرز أنه إذا كانت الترجمة الأدبية خطراً محدقاً، فإن ترجمة الشعر هي أمّ المخاطر. روح الشعر تكمن في استخدام اللغة بطريقة مجازية استعارية تتخطى الحدود الدلالية التقليدية للغة، فهل يجب أن يكون المرء شاعراً لكي يترجم الشعر؟ يقول لاندرز: "الإجابة قطعاً بالنفي، على الرغم من اقتناعي أن المترجم يجب أن يمتلك الحساسية الشعرية حتى ولو لم يسبق له في حياته أن كتب بيتاً من الشعر".