حذر المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني من استغلال الاضطرابات التي تشهدها البلاد من جانب قوى داخلية وخارجية تسعى للإضرار بالعراق، وقال "أمام القوى السياسية العراقية فرصة فريدة لتلبية مطالب المحتجين وفق جدول زمني"، محملاً "القوات الأمنية العراقية مسؤولية استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين".
قتلى وجرحى
ميدانياً، ذكرت الشرطة ومصادر طبية أن قوات الأمن العراقية قتلت بالرصاص ما لا يقل عن ستة محتجين وسط بغداد الخميس السابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، وقتلت أربعة آخرين أثناء فض اعتصام في مدينة البصرة، جنوب البلاد. وأصيب عشرات في أنحاء أخرى من البلاد، بينما لم تظهر أي علامة على تراجع الاضطرابات الدامية المستمرة منذ أسابيع.
وقالت المصادر إن 38 شخصاً أصيبوا في اشتباكات قرب جسر الشهداء مع استمرار المظاهرات الحاشدة لليوم 13 على التوالي واحتشاد الآلاف في وسط العاصمة. وفي جنوب العراق، قال مسؤولو ميناء أم قصر إن عشرات المتظاهرين المناهضين للحكومة أحرقوا الإطارات وسدوا مدخل الميناء، فمنعوا الشاحنات من نقل الأغذية والواردات الحيوية بعد ساعات من استئناف العمليات.
من ناحية أخرى، قال مصدر في البنك المركزي العراقي إن القطاع الخاص تضرر من قطع الإنترنت الذي فرضته الحكومة لمحاولة كبح الاضطرابات. وأضاف المصدر أن البنوك الخاصة في العراق سجلت خسائر تبلغ حوالى 16 مليون دولار يومياً منذ أول انقطاع للإنترنت في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وقال المصدر إن الخسائر المجمعة للبنوك الخاصة وشركات الهاتف المحمول وخدمات تحويل الأموال والسياحة ومكاتب حجز تذاكر الطيران تتجاوز في المتوسط 40 مليون دولار يومياً، وهو ما يعادل نحو 1.5 مليار دولار خلال أكثر قليلاً من شهر.
رد على "الإهانة"
ويعتبر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بحسب صحافيين ومتابعين، أحد أهم أسباب إدامة زخم حركة الاحتجاج.
فعندما اندلعت الموجة الأولى من الاحتجاجات مطلع أكتوبر 2019، سارع عبد المهدي إلى اتخاذ قرارات بتعيين آلاف العاطلين في وظائف حكومية، وقتها قال متظاهرون إن رئيس الوزراء يحاول رشوة الشارع، ما تسبب في التحاق أعداد إضافية كبيرة بساحات التظاهر رداً على هذه "الإهانة".
وعندما وجد عبد المهدي أن أعداد المتظاهرين تضاعفت مراراً في بغداد والمحافظات، بعد ثلاثة أيام، أمر بقمعهم، وفي السادس من أكتوبر كان عدد القتلى يناهز الـ 200، مع حوالى سبعة آلاف جريح.
وكانت هذه الأرقام، أكثر من كافية، لتشكيل الموجة الاحتجاجية الثانية، التي بدأت في الـ 25 من الشهر الماضي، وتستمر حتى الآن.
خلال هذه المدة، ظهر رئيس الوزراء أكثر من مرة بشكل مباشر أو عبر بيانات. لكنه في مرتين على الأقل، منح التظاهرات زخماً كبيراً جداً، عندما بدا أن وهجها يخفت.
"حكومة معرض بغداد"
في المرة الأولى، طلب عبد المهدي من المتظاهرين في بيان، أن يعودوا إلى منازلهم لأن وجودهم في الشارع أضر بمصالح البلاد، وقال إن "الحكومة اضطرت لتأجيل معرض بغداد للكتاب، الذي كان مقرراً مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، بسبب الاحتجاجات"، فرد المتظاهرون بحملة "سخرية" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قامت على فكرة أن "الحكومة قتلت المئات وجرحت الآلاف لمجرد اللحاق بموعد معرض للكتاب".
واستخدمت إشارة عبد المهدي هذه في حملة على نطاق واسع للتحشيد ضد الحكومة، لا سيما أن البيان كان خالياً من الإشارة إلى أي من مطالب المتظاهرين. وسرعان ما ابتكر مدونون اسماً لهذه الحملة، وهو "حكومة معرض بغداد".
ضغوط إضافية
وكان واضحاً أن هذه الحملة تنجح، لأن أعداد المتظاهرين ازدادت كثيراً، بينما دخل الطلاب والموظفون على خطى الإضراب والاعتصام، ما تسبب في ضغوط إضافية على حكومة عبد المهدي، دفعها للمزيد من العنف.
وفي ساحة التحرير وسط بغداد، تجمع عدد من الأطباء، لتنظيم فعالية رداً على بيان عبد المهدي، ومن بين اللافتات التي رُفعت، واحدة تضمنت عبارة باللهجة الدارجة، مضمونها "نحن أطباء... ولن تمر علينا حقن التخدير"، في إشارة إلى أن رئيس الوزراء يحاول "تخدير الشعب".
في المرة الثانية، بث التلفزيون الرسمي جانباً من حديث عبد المهدي خلال اجتماع مجلس الوزراء مع مسؤولي الوحدات الإدارية في المحافظات العراقية.
"مراوغة" عبد المهدي
وقال عبد المهدي إنه يسمع عن "طلبات مشروعة" لاستقالته، و"هذا أسهل شيء". وأضاف "سأرتاح إذا استقلت وسيواجه خليفتي أعباء كبيرة". ولكنه استدرك بالقول "ما هو البديل...؟ فالبرلمان لن يتمكن من الاتفاق على مرشح جديد بسرعة، ولن تكون الحكومة الحالية قادرة على توقيع اتفاقيات وإطلاق مشاريع جديدة، لأنها ستكون حكومة تصريف أعمال".
بالنسبة إلى المحتجين، كان هذا دليلاً إضافياً على "مراوغة عبد المهدي في محاولة لبقائه في المنصب"، أما في البرلمان، فقد أعلن مشرعون أنهم سيختارون رئيس وزراء جديداً خلال أسبوعين، إذا تنحى عبد المهدي الآن، مستبعدين أن يحدث ذلك، في ظل إصرار إيران على بقاء هذه الحكومة العراقية، التي يُعتقد على نطاق واسع أنها تمثل مصالح طهران.
وأعلن النائب كاظم الصيادي أن رئيس الوزراء العراقي انتقل من "مرحلة الاستقالة إلى مرحلة الإقالة"، في حين قال زعيم "حزب الحل" جمال الكربولي، إن "الحكومة اللبنانية تستقيل استجابة لتظاهرات شعبية لم تسفك فيها قطرة دم، وحكومتنا لم يهتز ضميرها أمام أنهار الدماء وقوافل القتلى والجرحى".
إرادتان تتصارعان
أما الإعلامي العراقي حسام الحاج، فيقول إن "إرادتين تتصارعان الآن في العراق، "إرادة عراقية صرفة عبّر عنها الشعب، وإرادة أخرى إيرانية مستعدة لأن تحرق العراق إذا ما تغيرت المعادلة".
وتابع "الإيرانيون يقبلون بكل شيء، لكنهم لا يقبلون بإقالة حكومة آمون (في إشارة إلى صنمية عبد المهدي) أو تقليص نفوذ الذيول"، وهو المصطلح الذي يطلق على الموالين العراقيين لإيران.
وسرعان ما وصلت تعليقات المشرعين بشأن سهولة الاتفاق على خليفة عبد المهدي إلى ساحات الاحتجاج، ليعود المتظاهرون إلى رفع لافتات كبيرة وصور لرئيس الوزراء العراقي تحت كلمة "ارحل".