أحيت الانتفاضات والاحتجاجات السلمية في بيروت وبغداد والجزائر، وقبلها في الخرطوم ودمشق وطرابلس وصنعاء والقاهرة وتونس، آمالاً عريضة لدى الكثيرين في الحرية والمستقبل الأفضل لهم ولأبنائهم. غير أن الآمال قد تنقلب إلى كوابيس حروب أهلية مثلما حدث في سوريا واليمن وليبيا، وقد تسفر أحياناً عن نتيجة تُرضي في ما بعد من قام بالتظاهر والاحتجاج، مثلما حدث في مصر. الانتفاضات والاحتجاجات العربية تذكّر بما حدث قبل ثلاثين عاماً في ألمانيا خلال "الثورة السلمية" في ألمانيا الشرقية. آنذاك، في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 وقع زلزال سياسي بعد سقوط سور برلين. وبعد عام أدى هذا الزلزال إلى اتحاد الألمانيتين، وهو الحدث الذي تحتفل به ألمانيا الموحدة كل عام في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول)، يوم توقيع اتفاق الوحدة. لكن اليوم، وعلى الرغم من الرخاء الاقتصادي السائد والحرية السياسية التي ينعم بها أهالي تلك المناطق، فإن السخط والغضب والمرارة تتزايد في نفوس عديد من أبناء وأحفاد من قاموا بتلك التظاهرات في المناطق التي كانت تابعة لألمانيا الشرقية، أو "ألمانيا الديمقراطية". أتذكر أن مواطنة من ألمانيا الشرقية (سابقاً) قالت لي بعد سقوط نظام مبارك في مصر، وبعد الآمال الوردية التي سادت لدى قطاع كبير من المصريين: "نعم، نحن أيضاً اجتاحتنا الحماسة البالغة بعد سقوط سور برلين والوحدة الألمانية، وأطلقنا لخيالنا العنان في تصور مستقبلنا الوردي. انتظر قليلاً، النتائج قد تكون مخيبة لآمالك".
ما عبرت عنه هذه السيدة الشرقية، يشعر به قطاع لا يستهان به من الألمان في المناطق التي كانت تكوّن في ما سبق "جمهورية ألمانيا الديمقراطية". ويظهر هذا السخط جلياً في الانتخابات المحلية في الولايات الشرقية، إذ يكتسح الانتخابات حزب يميني شعبوي متطرف، وهو حزب "البديل من أجل ألمانيا"، ويستولي في البرلمانات المحلية على جزء كبير من المقاعد التي كانت تشغلها الأحزاب الكبيرة الراسخة. من ناحية أخرى يصوت كثيرون في تلك الولايات لصالح حزب "اليسار"، أي يسار "الاشتراكيين الديمقراطيين". وبقليل من التبسيط يمكننا القول إن الناخب في شرق ألمانيا ينتخب إما اليمين (المتطرف) أو اليسار (شبه المتطرف)، ويبتعد عن كل أحزاب الوسط، ويعلن عداءه لكل الأحزاب الحاكمة أو التي شاركت في الحكم، ومنها الحزب الديمقراطي المسيحي الذي قاد آنذاك البلاد إلى الوحدة الألمانية في عهد المستشار الأسبق هلموت كول.
تقسيم أوروبا
ولكن قبل أن نتحدث عن عواقب الوحدة الألمانية، لا بد أن نتحدث عن تقسيم ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وعن تفجر الصراع حول السلطة في العالم بين الاتحاد السوفيتي والحلفاء الغربيين، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى. في تلك السنوات أصبحت برلين محور المواجهة بين الشرق والغرب. لا ينسى سكان برلين الغربية كيف كانت تلك المواجهة شرسة، وبخاصة عندما استخدم الاتحاد السوفيتي سلاح التجويع لسكان الشطر الغربي من برلين في عامي 1948 و1949. آنذاك قطعت موسكو إمدادات الطعام عن برلين الغربية التي كانت مثل جزيرة تحيط بها ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) من كل جانب. ولم ينقذ أهالي برلين الغربية من الموت جوعاً سوى الطائرات الأميركية والبريطانية التي راحت تُسقِط المواد الغذائية من السماء. وفي خريف 1949 تم إعلان تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية الرأسمالية) وجمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية الشيوعية)، وبذلك أصبح تقسيم أوروبا أمراً واقعاً.
فجأة وجد الألمان أنفسهم مقسمين بين نظامين سياسيين واقتصاديين، وفجأة وجدت بعض العائلات نفسها مقسمة، البعض في الشرق والآخر في الغرب. كان الوضع في برلين أكثر عبثية، إذ قسمت المدينة نفسها، وفي بعض الأحيان كان يُقسم الشارع، فتكون الجهة اليمنى تابعة لبرلين الشرقية، واليسرى تابعة لبرلين الغربية، وهو ما حدث في "بِرناور شتراسه" على سبيل المثال.
نحو الحرية من دون انحناء
الأوضاع المعيشية الصعبة والقبضة الأمنية المحكمة في شرق ألمانيا أديا إلى تفجر انتفاضة في السابع عشر من يونيو(حزيران) 1953، غير أن الدبابات السوفيتية سرعان ما قمعتها. لكن قمع الانتفاضة لم يقمع شعور الناس بالسخط، ولم تمر سنوات قليلة حتى أحس الألمان الشرقيون بأن جمهوريتهم تتصف بالديمقراطية في الاسم الرسمي فحسب، فشرعوا "يصوتون بالأقدام" ضد النظام القمعي البوليسي، أي يفرون من بلادهم. حتى عام 1961 هرب نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون ألماني شرقي إلى ألمانيا الغربية لأسباب مختلفة، مثل وجود أقارب في الغرب، أو التطلع نحو الرخاء والحرية، أو الوضع الاقتصادي السيء في الشرق. هذا النزيف البشري ألحق ضرراً كبيراً باقتصاد ألمانيا الشرقية، كما أصاب الإيديولوجية الشيوعية في مقتل: ها هم الناس يهربون من "الجنة" الاشتراكية إلى "جحيم" الغرب الرأسمالي المتوحش. لذلك، رأى المسؤولون في برلين الشرقية أنه لا بد من منع الناس من الفرار إلى الأعداء، ولو بالقوة.
وهكذا استيقظت برلين صبيحة يوم الثالث عشر من(آب) أغسطس عام 1961 لتجد أسلاكاً شائكة تفصل بين شطري المدينة، وشيئاً فشيئاً شرعت السلطات في ألمانيا الشرقية في بناء سور يصعب تسلقه، ويحرسه جنود لديهم أوامر بإطلاق الرصاص الحي على كل من يحاول العبور من الشرق إلى الغرب. كانت تسمية السور جزءاً من الحرب الباردة: أهو "سور العار" كما أطلق عليه الألمان الغربيون، أم "سور الحماية المناهض للفاشية" كما أطلق عليه الشرقيون؟ على كل حال، أضحى السور رمز الحرب الباردة، ورمزَ "الدولة الفاشلة" التي تمنع بالقوة مواطنيها من مغادرتها، فتحول البلد إلى سجن كبير. ومع ذلك لم تتوقف محاولات الناس عن الهرب، وعن ابتكار طرق جديدة في الفرار من قبضة الحزب الاشتراكي الحاكم. وربما تمثل صورة الجندي الألماني الشرقي كونراد شومان وهو يقفز فوق الأسلاك الشائكة في شارع "برناور شتراسه" بعد يومين فحسب من بناء السور، رمزاً لمآل هذه الدولة التي يهرب منها حتى الجنود المكلفين بحمايتها. ولم يبق شومان حالة مفردة، إذ تبعه حتى سقوط السور نحو 2500 جندي ألماني شرقي، ناهيك عن الآلاف من المدنيين الذين كانوا يهربون سباحة، أو ببطاقات هوية ألمانية غريبة مزورة، أو عبر استخدام أنفاق الصرف الصحي تحت الأرض، أو بالطائرات الشراعية، أو حتى باستخدام المناطيد. ولعل من أغرب وأشجع عمليات الهروب الناجحة هي تلك التي حفر فيها 12 شخصاً من المسنين نفقاً عبر الحدود والسور. كان المسنون يحفرون يومياً لمدة 16 يوماً، من السادسة صباحاً حتى الثامنة مساء، إلى أن تمكنوا من حفر نفق بطول 32 متراً تحت الأرض، وبارتفاع نحو المترين. عندما سأل الصحافيون زعيم المجموعة البالغ من العمر آنذاك 81 سنة: لماذا حفروا النفق بهذا العلو؟ رد قائلاً: كنا نريد أن نسير مع زوجاتنا إلى الحرية من دون أن ننحني!
وفي مقابل قصص الهروب الناجحة لقي 138 شخصاً على الأقل مصرعهم خلال محاولة الهروب عبر الجدار الفاصل بين الدولتين.
زلة لسان تهدم السور
بني سور برلين ليحمي ألمانيا الشرقية من "الفاشية الغربية" حتى الأبد، غير أن لم يصمد في وجه الزمن سوى 28 عاماً. ومن سخريات القدر أن رئيس ألمانيا الشرقية إريش هونيكر أقام احتفالاً ضخماً في ذكرى مرور أربعين عاماً على تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وذلك في السابع من أكتوبر عام 1989. في ذلك الاحتفال قال هونيكر إن السور باق، ولن يُهدم في الخمسين عاماً أو المئة عام المقبلة. بعد نحو شهر عُزل هونيكر، وانهار السور، ونال الألمان الشرقيون حريتهم.
لم يحدث ذلك بالطبع بين عشية وضحاها، وإنما كان ثمرة تفاعلات دولية ومحلية. بدأت تلك التحولات بقرار غورباتشوف بأن يسمح لدول حلف وارسو بالاستقلال عن موسكو. وهكذا بدأت إصلاحات ديمقراطية في بولندا ثم في المجر. وفي مايو(أيار) 1989 انهار "الستار الحديدي" في المجر، بعد أن قام جنود الحدود بإزالة الأسلاك الشائكة بين المجر والنمسا، وسُمح للألمان الشرقيين بعبور الحدود لمواصلة السفر إلى النمسا، ثم إلى ألمانيا الغربية. في أعقاب ذلك قام آلاف من الألمان الشرقيين بالسفر إلى دول الكتلة الشرقية، وهناك "احتلوا" سفارات دولة ألمانيا الغربية، مطالبين باللجوء إليها.
من ناحية أخرى تزايدت الاحتجاجات والتظاهرات في شرق ألمانيا، فخرج المئات ثم الآلاف يطالبون بإصلاحات ديمقراطية وحرية تأسيس الأحزاب وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي. وبلغت الاحتجاجات ذروتها في التاسع من أكتوبر 1989 عندما خرج نحو 70 ألف متظاهر في مدينة لايبتسغ مطالبين بإصلاحات ديمقراطية. وبعدها بنحو أسبوع عُزل إريش هونيكر وأُبعد عن منصبه كرئيس للمكتب السياسي في الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم. في أعقاب ذلك وعد خليفته أويغن كرينتس بالقيام بإصلاحات وبـ "تغيير المسار".
إلى جانب الاحتجاجات العارمة في البلاد كان ما يؤرّق بال قادة الحزب الاشتراكي هو الإفلاس المالي الوشيك، ولذلك بدأت مفاوضات سرية مع ألمانيا الغربية للحصول على قروض بقيمة نحو 13 مليار مارك ألماني. لمح المستشار الألماني الغربي هلموت كول إلى موافقته على منح القروض، ولكن بشرط هدم السور، ليس سور برلين فحسب، بل الجدار الشاسع الممتد على الحدود الذي يفصل بين الدولتين.
كل هذه التطورات أدت إلى ما حدث في ذلك اليوم التاريخي، يوم التاسع من نوفمبر 1989، وذلك عندما أعلن المتحدث باسم الحزب الحاكم حرية السفر لمواطني ألمانيا الشرقية، وهو ما يعني سقوط سور برلين.
والعجيب أن زلة لسان من أحد قادة النظام الألماني الشرقي هي التي أدت إلى انهيار حصن برلين الحصين، وكشفت مدى هشاشة الديكتاتورية وضعفها. في ذلك اليوم التاريخي (9/11/1989) عُقد مؤتمر صحافي ترقبه الجميع لمعرفة كيف سيواجه الحزب الاشتراكي الحاكم أعنف أزمة سياسية يمر بها منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية. طوال ساعة كاملة راح غونتر شابوفسكي، المتحدث باسم الحزب الاشتراكي الموحد، يردد العبارات الإيديولوجية المستهلكة، حتى همّ الصحافيون في الانصراف. وعندما سأله أحد الصحافيين سؤالاً عن الإجراءات التي تعتزم الحكومة اتخاذها، تذكّر أن سكرتير عام الحزب الحاكم كان قد أعطاه قبل المؤتمر ورقةً تخص قانون السفر الجديد. لكن شابوفسكي لم يكن يعلم أن تلك الخطوات التي تنوي الحكومة اتخاذها لم تصدر رسمياً بعد، وأن مجلس الوزراء لم يكن قد اعتمدها. كان يظن أنه يقرأ قراراً ساري المفعول، وبناء عليه قرأ الاقتراحات على أنها قانون نافذ، وعندما تعالت نداءات الصحافيين تتساءل: متى سيسري القرار، ارتبك شابوفسكي أكثر، وأجاب الإجابة التاريخية: فوراً – منذ الآن! أذاع الصحافيون نبأ السماح لمواطني ألمانيا الشرقية بالسفر، وعلى الفور تدفق الآلاف إلى حدود ألمانيا الشرقية وإلى سور برلين العتيد. وسرعان ما انهار الستار الحديدي الفاصل بين الشرق والغرب.
خلاص من الديكاتورية ورفاهية ولكن...
لكن هل حدثت الوحدة حقاً؟ هل يشعر مواطنو شرق ألمانيا بعد مرور 30 عاماً على سقوط السور بأنهم مواطنون متساوون مع نظرائهم في الشطر الغربي؟
الحقيقة لا. فعلى الرغم من الرخاء الاقتصادي في الشرق، فإن إحساساً يترسخ عاما بعد عام لدى قطاع كبير من مواطني ألمانيا الشرقية بأنهم قد "بيعوا" إلى الغرب، وأصبحوا يعاملون وكأنهم عالة اقتصادية على الشطر الغربي الذي دفع المليارات لانتشالهم من إفلاسهم. وتشكل مؤسسة "تروي-هاند"، وهي المؤسسة التي كانت مسؤولة عن تصفية الشركات الخاسرة في الشرق وخصخصتها، جرحاً في وعي الألمان الشرقيين، لم يندمل على الرغم من مرور ثلاثين عاماً عليه. آنذاك فَقَدَ نحو مليوني إنسان وظائفهم، وهو ما أدى إلى انكماش عدد السكان هناك إلى مستويات عام 1905.
من ناحية أخرى، لا يفهم الغرب سخط الشرقيين على الرغم من التحسن الهائل في الوضع الاقتصادي، ولسان حالهم يقول: ألم يهدموا السور رغبةً في الانضمام إلينا؟ ألم يهربوا بالآلاف من الديكتاتورية والقمع البوليسي ليعيشوا في أراضي جمهورية ألمانيا الاتحادية؟ ألم تكن مصانعهم وشركاتهم منهارة، تعاني من سوء إدارة مزمن؟
استطلاعات الرأي التي أجريت في ألمانيا الشرقية بعد سقوط السور وقبل إتمام الوحدة تبين أن نحو نصف المواطنين هناك (وتحديداً 42 في المئة) كانوا يريدون إصلاح النظام السياسي، وكتابة دستور جديد لهم، وليس بالضرورة الوحدة مع ألمانيا الغربية، وأن 9 في المئة فقط هم الذين أرادوا الانضمام إلى جمهورية ألمانيا الغربية. لكن الإرادة السياسية للطرف الأقوى، أي الغرب ممثلاً في هلموت كول، فرضت عليهم الوحدة والانضمام إلى دستور ألمانيا الغربية. وبعد ثلاثين عاماً ما زال ثمة جدار بين العقليتين والهويتين، بين من يرى أنه دُفع دفعاً إلى طريق لم يكن بالضرورة يريد السير فيه، أو لم يكن قد تهيأ للسير فيه بعد، وبين من لا يفهم: لماذا لا يشعر عديدون في الجانب الآخر بالامتنان والعرفان بعد خلاصهم من الديكتاتورية، وتمتعهم بالحرية، وبعد الإصلاحات الاقتصادية التي كلفت مليارات؟