لم يشهد العالمُ في عقودِه الأخيرة تأثيراً متبادلاً بين العلاقات الدوليَّة والارتباطات الإقليميَّة مثلما نشهده الآن، فلقد أصبح التأثير المتبادل بينهما واضحاً، ولو أخذنا المنطقة العربيَّة الممتدة من غرب آسيا إلى شمال أفريقيا ومن المحيط الهندي إلى جنوب أوروبا لوجدنا أن الأمر واضحٌ تماماً في السنوات الأخيرة، إذ تسيطر حالة من الاستقطاب تجعل التحالفات غير واضحة، كما أنها تجعل القدرة على التنبؤ بما هو قادم أمراً صعباً هو الآخر، فإذا أضفنا إلى ذلك بعداً جديداً هو دخول الإرهاب إلى المنطقة على نحو غير مسبوق فإننا نجد أنفسنا أمام تداخلات معقّدة وظروف ملتبسة، إيران لا تدين تركيا في اجتياحها شمال سوريا، وهي دولة حليفة منذ عدة عقود! روسيا الاتحاديَّة لا تعترض على الموقف السوري من الغزو التركي رغم أنها تحافظ على علاقات طيبة مع أنقرة وتبدو مبرراتها تاريخيَّة أكثر منها ارتباطاً بالواقع الحالي! وما زلنا نتذكّر عندما أسقط الأتراك طائرة روسيَّة كيف مضى الأمر بسلاسة، بينما أدّى انفجار طائرة روسيَّة في مطار مصري إلى مشكلة امتدت بالمقاطعة الجويَّة مدة خمس سنوات تقريباً، وتظل إيران رقماً صعباً في العلاقات الإقليميَّة الراهنة، وذلك بسبب تأثيراتها الأيديولوجيَّة وامتداداتها العسكريَّة في العراق ولبنان وسوريا واليمن.
إننا أمام مشهد يثير القلق، ويدعو إلى التساؤل، ولا نكاد نعرف من يفعل ماذا؟! في ظل سياسات أميركيَّة متخبطة تتأرجح قرباً أو بعداً من تركيا حسب الظروف، وتهدد إيران وتقيم تهدئة معها حسبما يتراءى للرئيس القابع في البيت الأبيض، وهو يحرّك الأمور بمنطق تجاري أكثر منه سياسياً، والملاحظ أن أوروبا تنظر في ترقب إلى ما يدور في المنطقة، ويرى كثيرٌ من ساستها المخضرمين أنها تبدو حالياً كبرميل بارود قابل للانفجار في أي وقت بسبب الصراعات التي خلّفتها أحداث المنطقة في العقود الأخيرة، ولا يبدو الدور الإسرائيلي بعيداً عما يحدث، فإسرائيل لاعب رئيس في أحداث المنطقة تستفيد من كل ما يجري، وتستخدم عنصر الوقت في الترويج لسياستها التي تسعى بها لتصبح عضواً طبيعياً في النظام الإقليمي لكسر حاجز العلاقة المباشرة مع عدد من الدول الأفريقيَّة بل والعربيَّة، وإذا أردنا أن نتلمّس الطريق وسط أجواء الشرق الأوسط الحاليَّة، فإننا نطرح أمام القارئ الأبعاد التاليَّة:
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أولاً: لقد شهدت المنطقة منذ بدايّة القرن الماضي، وتحديداً بعد نهايّة الحرب العالميَّة الثانيَّة، مجموعة تحالفات بين كيانات إقليميَّة وقوى دوليَّة، ولقد عزز من ذلك اتفاق (سايس بيكو) عام 1916، إذ ظهرت حالة من الاستقطاب بين دول بعينها وكيانات جديدة في الشرق الأوسط، كما ارتبطت في النهايَّة بقدرة القوى الغربيَّة على حمايَّة الكيانات الإقليميَّة، ولعل اللبنانيين -على سبيل المثال- يتذكّرون أن فرنسا عبّرت عن ارتباطها الخاص (بالموارنة)، وأوضحت بريطانيا علاقتها المتميزة (بالدروز)، وكانت مصر هي ركيزة أهل السُّنة هناك، بينما بقي الشيعة على ولاء عن بُعدٍ للدولة الفارسيَّة التي تشترك معهم في المذهب، ولذلك ظلّت الصراعات الإقليميَّة ذات بعد دولي من خلال التدخلات التلقائيَّة من جانب قوى أجنبيَّة دعماً للحلفاء الذين ارتبطوا بها منذ البدايَّة.
ثانياً: يتميز الشرق الأوسط -الأدنى سابقاً- بأنه كان دائماً ساحةً للصراعات والتدخلات من جانب أطراف متعددة، بعضها إقليمي وبعضها دولي، لكنها تظل في النهايّة مصدر توتر دائم وتعبيراً عن عدم الاستقرار، لذلك فإنه لا توجد دولة واحدة في هذا الإقليم إلا وشهدت اضطرابات داخليَّة ومواجهات خارجيَّة في العقود الأخيرة، ولقد أسهم ميلاد الكيان الإسرائيلي بدور كبير في تزكيَّة الصراعات وتأجيج المواجهات حتى أصبح الصراع العربي الإسرائيلي قاسماً مشتركاً في كثيرٍ من أحوال الشرق الأوسط وأوضاع شعوبه، خصوصاً الدول المجاورة لذلك الكيان، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن القوى الثلاث غير العربيَّة المجاورة للمشرق العربي والخليج وهي إسرائيل وتركيا وإيران مارست دائماً نوعاً من الاستقطاب الذي أدى إلى تراكمات دفعت ثمنها شعوب المنطقة.
ثالثاً: سوف يظل أمر ثورات الربيع العربي موضع جدل لعقود مقبلة، خصوصاً ما يتصل منها بالدوافع والملابسات ومشاركة قوى أجنبيَّة فيها، إذ إنها تبدو لنا وكأنها أمرٌ جرى الإعداد له وتحضيره للوصول إلى نتائج معينة، لأنها أحدثت زلزالاً ضخماً في المنطقة، وغيّرت معالمها، ونقلتها نقلة ضخمة إلى أوضاع مختلفة نالت من استقرارها، بل وقسّمت شعوبها، وهددت وحدتها الإقليميَّة، وسلامة أراضيها، لذلك فإننا نرى أن حالة الاستقطاب الدولي الحاد بين المتغيرات الدوليَّة والأوضاع الإقليميَّة انتعشت نتيجة ثورات الربيع العربي، وما أدت إليه وما زالت المنطقة في حالة مخاض لا نعرف الاحتمالات أمامه، كما يصعب التنبؤ بما هو مقبل، فالقضيَّة الفلسطينيَّة تراجعت، وسوريا تمزّقت، والعراق انقسم، ولبنان يكاد يدخل في حرب يوميَّة بمنطق الحشود الشعبيَّة ضد فساد النظم، وذلك كله يصب في خدمة الأطراف الثلاثة غير العربيَّة: إيران وتركيا وإسرائيل، ولذلك فهي الرابح الحقيقي من أحداث الربيع العربي، والفوضى التي أدت إليها في المنطقة.
رابعاً: لقد تعرَّض ميزان القوى في المنطقة منذ غزو الولايات المتحدة الأميركيَّة العراق بعد غزو صدام للكويت بعدة سنوات، وبعد حرب استمرت مدة طويلة بين طهران وبغداد سقط فيها مئات الألوف من الضحايا، فكانت النتيجة أن القوى العسكريَّة العراقيَّة التي كانت دائماً إضافة إيجابيَّة للجانب العربي أصبحت مخصومة منه، كما أن الجيش السوري أنهكته الحرب الأهليَّة، ونالت منه كثيراً الأوضاع التي تعرّض لها ذلك القطر المهم في الحركة القوميَّة والتاريخ العربي الحديث، كما أن الجيش المصري وهو أكبر جيوش المنطقة وأكثرها مهنيَّة يجرى استنزافه على ساحة أرض سيناء في مواجهة عناصر (داعش) وغيرها من التجمّعات الإرهابيَّة التي تسعى إلى سلخ شبه الجزيرة عن وطنها الأم، وإيجاد ركيزة لما يسمونه بالإمارة الإسلاميَّة، فضلاً عن اعتبار ذلك خطوة أساسيَّة لتصفيَّة القضيَّة الفلسطينيَّة من خلال بعض الصفقات المشبوهة، مثل "صفقة القرن" على سبيل المثال، والأمر المؤكد أن هناك ارتباطاً بين ما جرى في الشرق الأوسط وبين المشروعات الخبيثة التي يجرى الإعداد لتطبيقها على نحو يؤدي إلى تصفيّة القضيَّة الفلسطينيَّة، وضرب العمل العربي المشترك في مقتل، وتمزيق أواصر الأمة العربيَّة بل والإسلاميَّة أيضاً.
خامساً: لا يخفى على باحثٍ مجتهدٍ في الشؤون الدوليَّة أن أهميَّة الشرق الأوسط تراجعت في العقد الأخير بسبب وجود بدائل النفط، وفي مقدمتها اكتشاف البترول الصخري، وتراجع الاعتماد الغربي على إنتاج المنطقة التي اعتاد عليها، كما أن تزايد إحساس إسرائيل بالأمن يجعلها أمام حلفائها الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركيَّة في مأمن من مخاطر الإبادة أو حتى الحرب المفاجئة، علاوة على ذلك فإن الإدارة الأميركيَّة الجديدة هي إدارة تفكر بعقليَّة اقتصاديَّة تقوم على منطق الربح والخسارة، لذلك فإن تورّط الولايات المتحدة الأميركيَّة بقوات كبيرة، كما كان الأمر من قبل لم يعد مطروحاً، لكن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن إدارة دونالد ترمب سوف تحصد الأموال الطائلة من أرصدة البترول العربي، وهو أمر نجح فيه ذلك الرئيس الأميركي على نحو قد يعزز من مركزه، ما يجعله مؤهلاً لولايّة ثانيَّة، وليس هناك شيء بعيد على العقليّة الأميركيَّة ومفاجآتها المعروفة.
هذا طوافٌ سريعٌ من خلال ما جرى ويجري في المنطقة، واعتبار ذلك بدايّة لتحولات خطيرة وضغوط قويَّة ونزاعات معقدة لن يبرأ منها الشرق الأوسط، إلا إذا تغيّر ميزان القوى، وتبدَّلت أحوال الدول الإقليميَّة، وتراجعت أطماع الدول الأجنبيَّة.