كم بدا تقديم مسرحية شكسبير "هاملت" على بعد خطوات من قلب بيروت الثائرة مرادفاً لحركة الجموع اللبنانية المنتفضة ضد الفساد والطائفية والدولة بكل أطيافها. "هاملت الأمير المجنون" عرض مسرحي مونودارمي (مسرح سرداب كنيسة القديس يوسف- بيروت) يلتقي فيه المخرج جيرار أفيديسيان والممثل رفعت طربيه وكلاهما من رواد المسرح الجديد ويقدمان مقاربة فريدة لهذه المأساة الدرامية التي ما برحت منذ العصر الشكسبيري تغزو مسارح العالم. لم يكن في حسبان المخرج والممثل أن العرض الأول للمسرحية سينطلق مع الليلة الأولى للانتفاضة التي عمت ساحات لبنان وشوراعه، لكنها المصادفة، جعلت صرخة المواطنين تشبه صرخة "هاملت" الشهيرة: "أشم رائحة عفن في الدنمارك". لعله عفن الفساد الذي تهب رائحته من أرجاء الدولة وكواليس الحكام ورجال الأعمال الذين يمعنون في سرقة آمال الناس وأمانيهم.
تقديم "هاملت" على المسرح كان حلم جيرار أفيديسيان ورفعت طربيه وكل على طريقته، لكن لقاءهما في هذا العرض المونودرامي جعل مشروعيهما واحداً، سواء في إعداد النص أو في إخراجه وأدائه. وبدا لافتاً تقديم النص بالعربية الفصحى لا بالعامية، على الرغم من صعوبة الأداء الفصحوي للنص الشكسبيري الصلب، الذي يتطلب مقدرة تمثيلية كبيرة تحول دون وقوعه في ما يُسمّى "التسميع" أو التلاوة. وهذه المقدرة هي من خصائص الممثل الكبير والمخضرم رفعت طربيه. واعتمد المخرج والممثل في إعدادهما الصيغة المونودرامية بضع ترجمات عربية منها ترجمة الكاتب جبرا ابراهيم جبرا الشائعة والمتينة.
ولئن كانت المسرحية مونودرامية قائمة على حضور الممثل رفعت طربيه، فإن المخرج أحاطه بشخصين أو ممثلين صامتين كانا بمثابة شاهدَيْن على "هاملت" ومساعدَيْن له في بعض المشاهد، وكأنهما ظلان أو شبحان لا سيما بلباسهما الأسود. بل هما أيضا كانا جزءًا من السينوغرافيا البسيطة التي صممها حسن صادق والتي تجلّت في اعتماد لوحات بديعة بالأسود والأبيض للرسام جان مارك نحاس، تحمل ملامح العنف الداخلي والصراع عبر الوجوه شبه الممسوخة والعيون المشرئبة والصراخ المكتوم. هل كان ممكنا التخلي عن هذين الممثلين ليكتسب العرض صفته المونودرامية مثلما فعل المخرج والممثل الكبير بوب ويلسون عندما أدى وحيدا شخصية هاملت في عرض حمل عنوان "هاملت مونولوغ"؟ هذ سؤال لا بد من طرحه وإن بقي بلا جواب. وكعادته، ينجح أفيديسيان في التنويع على عنصر الملابس (بشارة عطالله) ولكن بما يلائم هنا المونودراما الشكسبيرية وبعيداً من الترف الشكلي. فملابس "هاملت" تتبدل من الأبيض إلى الأسود، فالبني، مع تبدل مواقفه التصاعدية. ولم يغب أيضاً ثوب "البوفون" أو المهرج الذي يحتل ذاكرة "هاملت" الطفولية.
ممثل وراوٍ
إلاّ أنّ نقطة الثقل في المسرحية تظل في التمثيل أو في أداء رفعت طربيه لشخصية "هاملت" وسرده باختصار سائر الفصول الخمسة التي يتألف منها نص شكسبير. وهذا ما حتّم على الممثل في إدارة المخرج أن يؤدي دورين في وقت واحد: دور "هاملت" كشخصية تراجيدية ودور الراوي الذي يتكفل بسرد بعض الوقائع والأحداث التي أحاطت بـ"هاملت" ورافقته وكانت حافزه على رسم مساره التراجيدي. هكذا بدا رهان رفعت طربيه مزدوجاً: ممثل يؤدي أحد الأدوار الصعبة والمعقدة وراوٍ يمهّد للممثل ويقوم بمهمة رصد التفاصيل التي تحفل بها المسرحية. أداء من داخل وأداء يواكب تحوّلات الأحداث والمكان والزمان، وهذان أساسيان في المسرح الشكسبيري.
في المسرحية، يخوض رفعت طربيه عالم "هاملت"، متجاوزاً لعبة الأداء الكلاسيكي المفترض. وقد استخرج من وقائع الشخصية الهاملتية تحولاتها وصراعاتها المتعددة وتناقضاتها وبنى منها كممثل، خيطاً شبه ملحمي يتواصل منذ الإطلالة الأولى من غير انقطاع، حتى يبلغ المآل الأخير الذي هو مآل "هاملت" والشخصيات التي أحاطت به وما تميز به طربيه هنا هو قدرته القوية على الدمج بين وجهَيْ الراوي والممثل، حتى إنه لم يكن يفصل بينهما سوى عبر فن الأداء نفسه. ألغى المخرج ومعدّ النص والممثل معاً، تقسيم النص إلى خمسة فصول، وراح طربيه يؤدي العمل عبر نَفَس واحد، يتطلب جهداً ومراساً وخبرة في تقنيات الأداء ووعياً في مفهوم التجسيد وعيش اللحظة والانتقال من حال إلى حال. ليس في قدرة أي ممثل أن يخوض مثل هذا اللعب الذي يعتمد في وقت واحد الواقعية النفسية وما تتضمنه من تماهٍ مع الشخصية وتصعيد في الحركة وتوزع بين حركتين متعاكستين: حركة التنامي وفي سياقها حركة القطع عبر فعل الروي. "هاملت" رفعت طربية شخصية تتخبّط في صراع الفعل واللافعل، بين أن يكون أو لا يكون، بين الحب الحارق والجنون الذي لا يخلو من التواطؤ. فمنذ أن يظهر عليه طيف أبيه الملك، داعياً إيّاه إلى الانتقام من عمه (كلوديوس) الذي سمّمه وقتله ليستولي على العرش وعلى زوجته التي هي أمه (جيرترود)، يهتز "هاملت" اهتزازاً وجودياً وعصبياً، نفسياً وجسدياً. ثم تنسحب أمامه وقائع البغضاء والكراهية ممزوجة بحبه العميق لأمه الخائنة وعشقه المريض لأوفيليا وجنونه ورغبة الانتقام التي توغر صدره.
استحضر رفعت طربيه معظم شخصيات المسرحية بصفته راوياً، استحضاراً سريعاً من دون أن يقع في التفاصيل التي قد تنعكس سلباً على الاداء، وهذه الشخصيات معروفة ورائجة مثلها مثل حكاية أمير الدنمارك. لكن الشخصيات المحورية تمظهرت هنا في مواقف كان على "هاملت" أن يصطدم بها لينسج خيط لعبته المونودرامية. وكم بدا مؤثراً مونولوغ "أن نكون أو لا نكون" (الفصل الثالث، المشهد الأول) مثله مثل الحوارات التي انصهرت بعضاً ببعض ولا سيما في مشهد ظهور طيف الأب القتيل. أما لعبة المسرحية التي اخترعها "هاملت" ليثير حفيظة عمه قاتل أبيه بالسم، فمرت وكأنها لوحة يرويها "هاملت" ويؤديها بصوته وجسده.
اعتمد طربيه في أدائه شخصية "هاملت" مبدأ الإيقاع في شتى ضروبه جاعلاً من النص نشيداً بصرياً يتفجر حركة وتعبيراً ولغة وكلمات، جامعاً بين الفعل والانفعال وبين عيش اللحظة والغوص في الداخل واللاوعي. والإيقاع في أحد تجلياته هو النَفَس، الطالع من الأعماق وليس فقط من الصدر. وبدا نَفَس رفعت طربيه أشد قوة حتى من نَفَس الجمهور الذي ظل مشدوداً بدهشة وإعجاب إلى هذا الممثل الكبير الذي اختبر أهم المدارس المسرحية في لبنان مع منير أبو دبس وريمون جبارة وسواهما.