على وقع عودة التظاهرات والاحتجاجات على خلفية المقابلة التلفزيونية لرئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون، وما أدلى به من مواقف أثارت غضب الشارع، وصل مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو موفداً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى بيروت في زيارة استطلاعية لما بلغته الأوضاع اللبنانية غداة انفجار الانتفاضة الشعبية واستقالة الحكومة بنتيجتها.
ورغم الطابع الاستطلاعي للزيارة، فقد حمل الموفد الفرنسي رسالة دعم فرنسية واضحة للبنان، تعكس حرص فرنسا على سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه ووحدة شعبه وحقه في التعبير السلمي والديموقراطي، مع التأكيد على حث السلطات اللبنانية على الاستجابة لهذا التعبير، وحث المسؤولين على تسريع المسار الدستوري بتحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة الرامية الى تكليف شخصية لتشكيل الحكومة العتيدة.
توقيت المبادرة
لم يحسن الموفد الفرنسي الذي راقب عن كثب تطور الأمور في لبنان بعد اكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاع الانتفاضة، اختيار التوقيت الأفضل لمحادثاته الهادفة الى تقديم المساعدة والمشورة للمسؤولين والقيادات اللبنانية من اجل حل الأزمة، خصوصا وان باريس لا تخفي اهتمامها في العودة الى الإمساك بالملف اللبناني من دون التدخل الأميركي الضاغط، وان لم يكن الأميركيون بعيدين عن أجواء الزيارة، وذلك من بوابة البحث في الوسائل الآيلة الى انعاش مقررات مؤتمر "سيدر" الذي انعقد في العاصمة الفرنسية قبل نحو 19 شهراً واقر مساعدات مالية للبنان بقيمة 11 مليار دولار أميركي.
ترى مصادر نيابية رفضت الكشف عن اسمها، أن جدول أهداف زيارة الموفد الفرنسي اصطدمت بالمواقف التصعيدية المتقدمة لرئيس الجمهورية، الذي أعلن رفضه تشكيل حكومة تكنوقراط وتمسكه بحكومة تكنو - سياسية، متناغماً بذلك مع موقف حليفه "حزب الله"، رغم تبلغه من الرئيس سعد الحريري رفضه لهذا الخيار. والمعلوم أن الحريري هو الأكثر ترجيحاً لتولي رئاسة الحكومة المقبلة، باعتبار انه يمثل أكبر كتلة نيابية سنية. وقد تلمس الموفد الفرنسي من خلال اللقاءات التي عقدها أن الأمور لا تزال تراوح مكانها، وسط تمسك كل فريق بموقفه، مما يؤشر الى أن البلاد دخلت في مرحلة من الفراغ القاتل تحت وطأة بدء تحول الانتفاضة الشعبية الى مواجهات مفتعلة مع الجيش اللبناني ترمي الى استدراج الجيش لإخراجه من حال الحياد التي أعلنها مع بدء الانتفاضة.
امتعاض الحريري
وفي حين لم يصدر أي موقف عن الحريري، فإن أوساطاً تدور في فلك رئيس الجمهورية تنقل عنه ما سبق وأعلنه عبر التلفزيون، عن أن الحريري ابلغه نيته بالاعتذار. وقد ردت أوساط الحريري بأنه لم يتم تكليفه بعد ليعتذر، وان هذا الكلام يعتبر تجاوزاً للدستور. علما أن أي قرار للحريري في اتجاه عدم العودة الى رئاسة الحكومة، سيؤدي الى مزيد من الاحتقان والى اشتداد الأزمة واتجاهها نحو منحى بالغ الخطورة، ما سيستدعي تدخلا أو وساطة دولية أو غربية تتجاوز المسعى الفرنسي، بعدما بات الاستقرار السياسي والأمني والمالي في لبنان مهدد بالانفجار على نطاق واسع.
البعد الاقتصادي لم يغب عن محادثات فارنو الذي تناول مقررات مؤتمر "سيدر" وموضع النفط والغاز، كاشفاً أمام المسؤولين الذين التقاهم أن تنفيذ مقررات المؤتمر تتطلب قيام حكومة تحظى بالثقة ويتمتع أعضاؤها بالخبرة والكفاءة. واعتبرت المصادر عينها أن في كلام الدبلوماسي الفرنسي إشارات واضحة الى تمسك فرنسا بحكومة تكنوقراط كشرط لحصول لبنان على المساعدات المعقودة له، بعدما خيبت الحكومة المستقيلة توقعات الفرنسيين خصوصاً والغرب عموما، نتيجة فشلها في إرساء برنامج الإصلاحات المطلوب بسبب خلافات الأحزاب الممثلة فيها.
وفي هذا السياق، ابلغ رئيس الجمهورية فارنو، أن الحكومة العتيدة ستلتزم تنفيذ الورقة الإصلاحية التي أقرتها الحكومة السابقة، إضافة الى عدد من القوانين التي يفترض أن يقرها مجلس النواب في سياق مكافحة الفساد وملاحقة سارقي المال العام بعد رفع الحصانة عنهم. وأشار عون الى أن التحركات الشعبية القائمة حالياً رفعت شعارات إصلاحية هي نفسها التي التزم رئيس الجمهورية تحقيقها، ولكن الحوار مع المعنيين في هذا الحراك الشعبي لا يزال متعذراً، على رغم الدعوات المتكررة التي وجهها رئيس الجمهورية اليهم.
الاستشارات الملزمة
وشدد عون على انه سيواصل اتصالاته لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة، معرباً عن امله في أن يتحقق ذلك في وقت قريب، مكرراً خياره بأن تكون الحكومة الجديدة مؤلفة من سياسيين وتكنوقراط لتأمين التغطية السياسية اللازمة كي تتمكن من نيل ثقة الكتل النيابية إضافة الى ثقة الشعب. كما شدد على أن الأوضاع الاقتصادية تزداد تردياً نتيجة ما تمر به البلاد حالياً من تظاهرات وإضرابات، فضلاً عن التداعيات السلبية التي تركها نزوح أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري الى لبنان. لكنه اعتبر أن بدء التنقيب عن النفط والغاز خلال الشهرين المقبلين سيساعد على تحسن الوضع الاقتصادي تدريجيا.
ونقل السفير فارنو الى عون تحيات الرئيس الفرنسي ماكرون ووزير الخارجية جان إيف لودريان، مبدياً اهتمام بلاده بالوضع في لبنان وحرصها على سيادته واستقلاله وسلامة أراضيه ووحدة شعبه. كما أشار الى استعداد بلاده لمساعدة لبنان للخروج من محنته الراهنة.
باسيل: الحكومة شأن داخلي
وانتقل الموفد الفرنسي الى الخارجية حيث استقبله وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل الذي شكر فرنسا ورئيسها على "اهتمامهما بلبنان وعلى الجهود المبذولة للحفاظ على استقراره ومنع انزلاقه الى الفوضى أو الى الانهيار المالي". وأبلغ باسيل الموفد الفرنسي "وجوب عدم دخول أي طرف خارجي على خط الأزمة اللبنانية واستغلالها"، مؤكداً "أن مسألة تشكيل الحكومة داخلية، وقد وصلت الى مراحل متقدمة وإيجابية"، مشيراً الى أن "لبنان ملتزم بمسار مؤتمر "سيدر" أيا تكن الحكومة المقبلة، وان التحدي هو بالإسراع في تنفيذه وتطبيق الإصلاحات المنشودة، وهو ما يشكل استجابة لمطالب الناس".
وزار فارنو الرئيس سعد الحريري، ثم رئيس مجلس النواب نبيه بري، حيث شدد على ضرورة إيجاد الحل السريع، مع الإشارة الى أن فرنسا متمسكة بمساعدة لبنان ومؤازرته في شتى الميادين ومن بينها "سيدر".
وعرض بري مع الموفد الفرنسي البدء بالتنقيب عن النفط في "البلوك الرقم4 " قبل نهاية السنة، وضرورة البدء بـ "البلوك رقم 9" قبل نهاية العام 2020. ووعد فارنو بنقل هذه الرغبة الى إدارة شركة "توتال".
وكان الموفد الفرنسي طلب مقابلة بعض القيادات السياسية وممثلين عن الانتفاضة الشعبية، وخبراء اقتصاديين وماليين. ويرافق فارنو مندوبون عن الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) التي تتولى تمويل عدد غير قليل من المنظمات غير الحكومية، وتهتم بملف الكهرباء في لبنان.
السفير فوشيه يشيد بشباب الحراك
وبرز أول من أمس موقف لافت لسفير فرنسا في لبنان برونو فوشيه الذي أشاد بـ"اللبنانيين المشاركين في الحراك"، كاشفاً "أننا شجعنا السلطات على بذل اقصى جهودها ليتمكن المتظاهرون من الاستمرار بالتعبير بأمان." وأعرب فوشيه عن إعجابه بـ" التزام الشباب القوي، هؤلاء الشباب الذين قيل إنهم مستقيلون أو لا مبالون وهم يظهرون لنا كل يوم رغبتهم في بناء مستقبل أفضل لبلادهم". وخلص الى القول انه "من المهم أن يسمع المسؤولون هذه الآمال والدعوات. وتأمل فرنسا بقوة أن تبصر حكومة لبنانية جديدة النور في أقرب وقت ممكن لاتخاذ التدابير الضرورية من أجل انتعاش البلاد التي تمر بوضع اقتصادي مقلق للغاية".