يبدو وسط القاهرة كفضاء شيق يدعو إلى التأمل، تركيبة مثالية للاضطراب والتناقض والتيه، العظمة والانسحاق في آن، الانفصال الكامل عن الواقع المأزوم، والتماهي مع تفاصيل تبدو بسيطة لأول وهلة، لكنها تحمل الكثير من التعقيدات والتشابكات.
ينعم وسط القاهرة بقوام مرن تشكل من طريق هذا التجاور اللافت لتفاصيل التاريخ الحديث مع تأثيرات العشوائية الآنية المحاصرة للمدينة. طبقات من الأزمنة تتداخل وتتجاور على رقعة المساحة الممتدة من حدود القاهرة الفاطمية، مروراً بالتخطيط الحضري لشوارعها وممراتها، وحتى الجانب الآخر من النيل. تتداخل الطبقات التاريخية وتشتبك على هذه الرقعة، كما تشتبك الانتماءات الاجتماعية والثقافية للحاضرين والمارين داخل المشهد، وفي لحظة تبدو عبثية من تاريخ هذه المدينة الغارقة في سكونها وضجيجها. يخيم على هذا المشهد مزيج من الفخر بالخلفية الكولونيالية للمكان في التحامها بالهوية المحلية، مع توجس خفي ومُقبض إزاء حاضر يتجهز للاحتمالات والتحولات كافة.
يبدو المكان بتركيبته هذه براحاً مثالياً أو ربما أسطورياً للممارسات المعاصرة، هذا الفعل البصري المتجاوز لحدود الانتماء، والذي ما زالت تتشكل قواعده إلى اليوم، نائياً بنفسه أحياناً- على الرغم من ضبابية الأجواء- عن الارتباط بالقواعد التقليدية لحداثة محلية مُدعاة. تتقلص المساحة والفضاء العام هنا ليصبحان جزءًا من هذه الممارسات وامتداداً بصرياً لها.
ضمن العروض الفنية الأخيرة التي أُقيمت في وسط القاهرة، ثمة معرضان أحدهما جماعي والآخر فردي، يجمع بينهما الاحتفاء بالمكان كفضاء للعمل. ضم المعرض الأول تجارب بصرية مختلفة للفنانين هاني راشد وعمار أبو بكر ومحمد إسماعيل وأيمن رمضان وسارة أبو الوفا وياسمين المليجي.
تطرح الأعمال المشاركة هنا سؤالاً مباشراً عن معنى المعاصرة. يستوقفك التساؤل ضمن البيان المصاحب للعرض كالتالي: ما هي المُتعة في الفن المعاصر؟ لا تعكس علامة الاستفهام هنا طبيعة السؤال المواربة بين الاستفهام والاستهجان الساخر، لكنها تثير في داخلك بلا شك تساؤلات أخرى حول طبيعة العمل الفني. مساحة العرض هي مساحة مؤقتة كانت في وقت ما ورشة لصيانة أجهزة البوتاغاز.. محل صغير وقديم لا تشي واجهته بطبيعته، ولا يبدو مُجهزاً لاستقبال العروض الفنية، لكنه بدا مثالياً لما أُقحم عليه من إضافات وتجهيزات فنية. تستقبلك عند الدخول رسوم على الجدار تحتمل مزيداً من الإضافة والمشاركة الجماعية، وثمة تجهيز لواجهة أحد محال الكشري، يتكون التجهيز من طاولة رُصّت عليها العشرات من علب التعبئة البلاستيكية، وصور فوتوغرافية مركبة على الجدار في الخلفية، ترسم تاريخاً للمطعم المُتخيل. تطالعنا عبر الصور شخصيات شهيرة وهي تمسك بعلب الكشري، بينها رؤساء للولايات المتحدة، والرئيسين المصريين السابقين أنور السادات وحسني مبارك والفرنسي فرانسوا ميتران. على مقربة من هذا العمل، ثمة عمل آخر استغل صاحبه الفراغ الجانبي لينشىء ما يشبه "ركن الحظ".
مجسمات في الشارع
يمكنك هنا أن تحصل على هديتك وفقاً لطالعك المكتوب. ثمة تركيب آخر من المجسمات المُعلقة يمكنك أن تتعامل معها على نحو تشاركي. في الساحة المقابلة، تمتد أمامك مجسمات ضخمة من ثمار الطماطم.
وقبل أن تشعر بتقلص حجمك أمام هذه الثمار العملاقة، سرعان ما يتعاظم حجمك من جديد وأنت تطالع مشهداً مُربكاً لنسخة مصغرة من ساحة عامرة بالسيارات والمركبات، ترسم مشهداً لعشوائية المدينة كأنما تراه من أعلى. يمزج العرض بين السخرية والجدية في تعامله مع الفراغ، المكان هنا يمثل جزءًا من التركيب أو التجهيز، فقد فضل المشاركون الإبقاء على طبيعة المكان كما هي من دون عناية، من طلاء الجدران المتهالك، حتى الفجوات والنتوئات والتجهيزات ودرجات السلم غير الممهدة.
المعرض الآخر للفنان أحمد ليثي، ويقام في قاعة مشربية القريبة تحت عنوان "أدخل إلى مكاني الخاص". يحتفي الفنان هنا بأولى خطواته نحو العروض الفردية.
كمصور، لم يرتق أحمد ليثي الدرجات المألوفة للمصورين، فهو لم يلتحق بأي من الأكاديميات الفنية المعروفة التي يؤمن البعض بضرورتها، ليس لمن أراد ممارسة التصوير فقط، بل لكل ممارس للفن، حتى بما فيه من ممارسات لا تمت بصلة إلى الأكاديمية. خرج أحمد ليثي من جُعبة هذه المسارات الفنية الموازية، وغير الخاضعة لسطوة الصورة التقليدية. يقدم ليثي تجربته البصرية من أجل الاحتفاء بتفاصيل حياته الشخصية كما يقول، وتذكّر الأحداث المؤثرة التي جمعته بأصدقاء حقيقيين، أو حتى متخيّلين. هو يسعى كما يقول إلى خلق مساحة ترابط بينه وبين الحيز المكاني الذي يعمل فيه، والأحداث المؤثرة أثناء العمل، اعتماداً على الذاكرة الفوتوغرافية. يستمر هذا المعرض حتى الخامس من ديسمبر المقبل.