يطوّع النحات الفرنسي جان برنار سوسبريغني المعدن بين يديه جاعلاً منه مادة فنية شديدة الليونة والشفافية، بل كأنه في أعماله المعروضة في غاليري أليس مغبغب- بروكسل، التي تتولى تنظيم معارضه في العالم، يحرر المعدن من ثقله المادي وجاذبيته مضفياً عليه ما يشبه رهافة الظلال وخفة الكائنات الأثيرية. لا يشعر من يتأمل منحوتات جان برنار أنه فعلاً أمام أعمال معدنية بمقدار ما يحس بأنه أمام أشكال وأحجام يتحاور معها بصرياً وتخييلياً وجمالياً. فالفنان في عمله الدؤوب في النحت والصقل والتشكيل يحوّل المنحوتات على اختلاف موضوعاتها أو "ثيماتها" إلى مرايا تعكس الكثير من المشاعر والرؤى والأفكادر والحالات النفسية والروحية، حتى ليمكن تسميته بسهولة فنان روح المعدن.
تتعدد الأشكال والأحجام في منحوتات جان برنار، لكنها جميعاً تتحاور مع الفضاء الذي يحيط بها، تأخذ منه وتعطيه، ولا تلبث أن تؤسس فضاءاتها الخاصة داخل الفضاء العام الذي يحيط بها. إنها جزء منها مثلما هو جزء من أشكالها. إنها منحوتات غنية الدلالات والإشارات والرموز. تأخذ حيناً شكل مكعبات أو قطع مركبة تركيباً بصرياً يتوزع بين التجريد والتجسيد، بين التعبيرية والتصويرية. ولعلها تمنح من يشاهدها حرية في التأويل والتخيّل المفتوح. إحدى المنحوتات تنتصب وكأنها وردة في حقل لامرئي، وردة كأنها تفوح بعطر أبيض لامع. في منحوتة أخرى يتخيل المشاهد أنه أمام زورق يتوازى شراعه مع قاعدته كما لو أنه يبحر في بحر المطلق، شاقاً سبيله بصرياً وفنياً، ومتهادياً وسط موج يولد من الفراغ الذي يحيط به. وتجسد منحوتة أخرى موضوع العناق، لكنه عناق غير محدد تماماً، قد يكون بين جسدين، جسد رجل وجسد امرأة، أو بين وجهين وأحدهما نصف الآخر ما يذكر بالحالة الهيرمافروديتية الإغريقية الجذور التي تقول إن الكائن كان واحداً ثم فصلته القدرة إلى قسمين. ولا تغيب حركة الجسد عن المعرض فتقدم منحوتات عدة استيحاءات طالعة من عمق الجسد بانحنائه أو انتصابه والتفافه على نفسه وانحنائه على ذاته. فحركة الجسد هي هنا حركة الوجود، بين الثابت والمتحول. وثمة منحوتات كأنها أشكال تتثنى أو تتثلث أو تتربع، تنفصم وتتداخل، مولدة سيلاً من الأفكار والمعادلات الشكلية والجمالية.
وأجمل لقاء هو ذاك الذي تجسده الخشونة والنعومة، ففي المنحوتة الواحدة يتواجه الخشن والناعم ويتحدان في وقت واحد، وهذا الاتحاد إنما يدل على ثنائية العمل الفني، المتراوحة بين المادة الخام أو الخشنة والمادة المصقولة كالمرآة. إنه حوار المتناقضات، أي حوار الفراغ والتشكيل، الانفتاح والانغلاف، الإيجاب والسلب، الجامد والمتحرك، الخفة والثقل، السيمترية والتأليف الحر. وقد نجح النحات في إقامة حوار داخلي وخارجي بين هذه الثنائيات مانحاً أياها دلالات مزدوجة. يقول الفنان: "كنت أحدق في المنحوتات وفي ظني أنها ستتحرك".
النحات الفرنسي جان برنار سوسبيرانغي من مواليد العام 1952، أنجز أولى منحوتاته العام 1969 وراحت من ثم تتوالى أعماله. شارك في معارض جماعية وأقام معارض فردية كثيرة في فرنسا ومدن عالمية. ودخل عالم المسرح بصفته نحاتاً وأنجز منحوتات عدة في هذا الاتجاه، وكان لأعماله حضور لافت في مهرجان أفينيون الشهير.