في واشنطن، العاصمة "السابقة" للعولمة، تدور مجدداً معركة غير تقليديّة كليّاً، بل تتحدّى التفكير النمطي الذي تغفو على وسادته بكسل، عقول عربيّة كثيرة!
وحتى من النظرة الأولى، يظهر معسكرا الحرب بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس شركة "آمازون. كوم" Amazon.com، وهما متمترسان بصورة تتحدّى التنميط. في معسكر أول، يقف جيف بيزوس صاحب شركة "آمازون. كوم" وهي عملاق معلوماتي هائل وأول شركة تقنية رقمية وصلت إلى عتبة تريليون دولار، ولكن السلاح الأشد قوّة في يده هو صحافة الورق!
وفي المعسكر الآخر، يقف ترمب مسنوداً بالحركة الشعبيّة الوطيدة الصلة بالـ "سوشيال ميديا" وسلاحه الأمضى والأشهر هو "تويتر" وتغريداته. هناك عقول عربيّة ربما يصدمها ذلك المشهد، خصوصاً أنها اعتادت تكرار كليشيه قوامه أن الورق قديم وينتمي إلى أجيال سابقة، فيما تردد أفواهها بألسنة شبه خشبية تسبيحات زاهية عن التقنيّة الرقمية، على الرغم من أن مساهمة العرب فيها يقل عن... الصفر!
وبعد ضربات "خفيّة" متنوّعة، أطلق بيزوس حملة اتهم فيها مجلة "ناشيونال إنكوايرر" National Enquirer بأنها سعت إلى ابتزازه في سياق نشرها صوراً عن علاقة نسجها بيزوس خارج إطار زواجه الذي تحطّم أخيراً بالطلاق. ولم يتردد بيزوس في الإشارة إلى كون البيت الأبيض هو اليد الخفية في تلك الحملة، مذكراً بتصاعد التوتر بين الرئاسة وصحيفة "واشنطن بوست" التي اشتراها بيزوس في 2013 بقرابة ربع مليار دولار.
في ذلك السياق، قد يزيد من تناقضات المشهد أن بيزوس (55 سنة) أكثر شباباً من خصمة العجوز المتربع على كرسي الرئاسة (72 سنة) الذي لم يملّ منذ بداية حملاته الانتخابيّة الرئاسيّة في 2016، عن الشكوى من أنّ القوّة التي يملكها خصمه المعلوماتي الشاب هي صحيفة ورقيّة (= "واشنطن بوست")، بل اتهمها بالكذب فيما كانت ظاهرة "الأخبار الكاذبة" تولّد على الإنترنت في قلب الشعبوية، وفق ما صار معروفاً الآن!
وبفضل العولمة الأميركيّة القيادة، وصلت "آمازون" إلى حجمها المذهل وهي الآن تفوق شركتي "آلفابيت" Alphabet ("غوغل" سابقاً) و"آبل" Apple وتتنافس مع "علي بابا" Ali Baba في التجارة الإلكترونيّة. وأكثر من ذلك، لطالما اعتبرت الإنترنت والتقنيات الرقمية وشركاتها من روافع العولمة وعتلاتها ونوابضها، وهي تحضر بذلك المعنى في صورة جيف بيزوس.
وفي المقلب الآخر، يظهر أن واشنطن صارت عاصمة "سابقة" للعولمة، بمعنى أن الشعبوية التي أوصلت ترمب إلى الرئاسة، تنفر من العولمة وتحارب ضدها، بل إن أحد أبرز السياقات الاقتصادية التي نفّذها ترمب، هي حربه على العولمة المعاصرة التي قادتها بلاده بنفسها وفرضتها على العالم منذ تسعينات القرن العشرين. استدراكاً، لا ينطبق ذلك الوصف إلا بصورة نسبيّة بالطبع، لأن العولمة باتت من وقائع العالم المعاصر، سواء تقبلت ذلك الأمر أم رفضته، تلك الشعبوية العالمية التي يسعى المستشار الترمبي السابق ستيف بانون إلى توحيدها. (إنّه تناقض آخر، لأن جهد توحيد الشعبويّة يتضمن نوعاً من عولمتها أيضاً، على الرغم من كونها عولمة مُرّة).
وطريٌّ في الذاكرة أيضاً، أنّ العولمة شكّلت جزءاً من التوتر المعلن بين ترمب وشركات المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة في "وادي السيليكون" الأميركية، بما فيها شركة "آمازون. كوم". واصطدمت شركات التكنولوجيا الرقمية مبكراً بسياسات ترمب، بداية من مرسوم تقييد الهجرة الشهير، الذي أثار رد فعل عنيف لدى تلك الشركات، لأنها تعمل على مستوى معولم بالتعريف كما تستمر بفضل تفاعلها المستمر مع العقول المبدعة عالمياً أيضاً.
الكتاب الورق بُعداً خفيّاً
بعد وصول ترمب إلى الرئاسة، انخرط سيد البيت الأبيض في معارك متواصلة ضد وسائل الإعلام التقليديّة بما فيها التلفزة مثل "سي أن أن" والإعلام الورقي مثل "واشنطن بوست". وتكراراً، كان الإعلام الرقمي سلاحاً مفضلاً لترمب، خصوصاً عبر "تويتر"، كما توضّح أن الـ "سوشيال ميديا" برمتها كانت المساحة التي تمددت فيها تيارات وقوى تؤيّده وتسانده. وشهدت تلك المعارك إحدى قممها في العام 2018، مع ظهور كتاب "خوف: ترمب في البيت الأبيض" للصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد، وهو بطل فضيحة "ووترغيت" التي أطاحت الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون. ومع مبيعات هائلة، استطاع كتاب الورق أن يهزّ الرئاسة الأميركية بشدة. تذكيراً، لا تزال الكتب الورق صناعة مزدهرة ومبيعات بأرقام فلكيّة في أميركا التي تقود مسار ثورة المعلوماتية والاتصالات والشبكات. وظهر غير تقرير أميركي يفيد بأن شباب أميركا يطالع كتب الورق بكثافة، بل يقصد المكتبات أكثر مما فعل الجيل السابق، ويقرأ فيها الكتب والصحف والمجلات وغيرها.
هل هي مجرد مصادفة أن "آمازون. كوم" ابتدأت أصلاً كشركة لتجارة الكتب الورق، بل بداية من مرحلة تأسيسها عندما كان اسمها "كادابرا" في 1994؟ لفترات طويلة، استمرت الكتب الورق وتنويعاتها أساساً في عمل تلك الشركة التي أدارها بيزوس من مقر رئيس في مدينة "سياتل" الأميركيّة. واشتهرت بتركيزها على صناعة الكتاب الإلكتروني عبر منتجها الشهير "كيندل" وانخرطت في التجارة الإلكترونيّة بأنواعها، ثم صارت شركة متعددة الأذرع تطاول نشاطاتها الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence وتقنيات "حوسبة السحاب" Cloud Computing، وصنع المُكوّنات الصلبة للكومبيوتر، والتبادل التجاري للمحتوى الرقمي المصنوع بوسائط الـ "ميلتي ميديا" كلها وغيرها.
يصعب قراءة معركة ترمب- بيزوس من دون الإشارة إلى أن نقطتها الراهنة تفجّرت عبر مجلة ورق ("ناشيونال إنكوايرر")، ربما شكّلت نوعاً من محاربة العدو بسلاحه، بالنسبة إلى معسكر ترمب. وتظهر ساحة تلك المعركة حاضراً كأنها صراع بين وسيطين ورقيّين (مجلة "ناشيونال إنكوايرر" وصحيفة "واشنطن بوست")، نيابة عن طرفين يملكان علاقة متناقضة مع التقنية الرقمية. إذ يقف جيف بيزوس (وشركة "آمازون") طرفاً أصيلاً في قلب صناعة المسار المعلوماتي- الاتصالي، إضافة إلى اختياره منصة "مديوم" المنتمية إلى الـ "سوشيال ميديا"، سلاحاً آخر في المعركة. فيما يبدو المُغرّد ترمب والشعبويّة المنغمسة في الـ "سوشيال ميديا" التي تناصره، أقرب إلى موقع المتلقي- المتفاعل مع الظاهرة التي يصنعها الخصم! الأرجح أنه تفصيل ليس صغيراً، خصوصاً أن "مديوم" ظهر من قلب التفاعل بين الشعبوية والـ "سوشيال ميديا"، ويرفع شعار "الكلمات تصنع الفارق"، لكن نقاش ذلك "التفصيل" يحتاج مساحات مستقلة أخرى.