شهدت مرحلة ما بعد 2003 انهيار الدولة العراقية، وبدأ نظام المحاصصة يسود في كل المؤسسات. غابت الدولة بمعناها الممثلة للمواطنة وبدأت دولة الأحزاب التي أرهقت البلاد بالفساد والاحتقان الطائفي وانتشار السلاح خارج سلطة الدولة.
تتفق الأحزاب التي هيمنت على المشهد العراقي على مبدأَيْ حماية مصالحها وتقسيم المناصب. فعلى سبيل المثال، التعيين في الدرجات الخاصة، لا يمكن أن يتم إلاّ عبر هذه الأحزاب وترشيحاتها.
وعليه، فإنّ شكل الدولة أصبح ترجمة حقيقية لهيمنة أحزاب سياسية على مؤسسة ما، تقابلها هيمنة لحزب آخر على مؤسسة سياسية أخرى.
وفقاً لذلك، عجز العراق بعد عام 2003 عن حل أزمات ومشاكل النظام السياسي، وصُنّف وفق تقرير صندوق السلام التابع للأمم المتحدة بأنه من "الدول الهشة"، وبدأت مفاهيم أخرى تظهر لتصف حالة هيمنة الأحزاب وسطوة الميليشيات منها حالة "اللادولة" و"الدولة العميقة"، التي تضم شبكة أشخاص وقوى سياسية وأذرع فساد تلتقي مصالحهم.
ولعل التظاهرات التي شهدها العراق حرّكت إدراك الدولة لهذه الحالة (حالة الدولة الهشة)، فمن الإصلاحات التي دعا اليها أخيراً رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، إجراء تعديل وزاري يبتعد عن المحاصصة. كما سيُمنع، ووفقاً للإصلاحات التي طُرحت، أي سلاح خارج الدولة واعتبار أي كيان مسلح يعمل خارج سيطرة الدولة غير قانوني وسيُصار إلى محاربته.
الطرف الخفي
مع التفجيرات المتعاقبة التي طالت ساحة التحرير في بغداد وساحة الحبوبي في ذي قار، بدأت الحكومة بالترويج لما يُطلق عليه "الطرف الثالث"، فهو المتهم بنشر الرعب بين المتظاهرين، وهو من تُوجَّه إليه أصابع الاتهام لقتلهم، ليس ذلك فحسب، بل اتُّهم أيضاً بخطف الناشطين وكبار قادة الشرطة.
في المقابل، يقول الباحث والخبير الاستراتيجي معن الجبوري، إن "الملاحظة التي تخص وجود الطرف الثالث، أُثيرت في الأيام الأولى لبدء التظاهرات وهي تتمثل في وجود أشخاص ملثمين يعتلون الأسطح العالية للبنايات، يعتمدون على القنص لقتل المتظاهرين وهم قريبون من القوات الأمنية".
ووصف الجبوري بأنهم "الطرف الخفي"، لكن ذلك يحصل بعلم الحكومة، متسائلاً "كيف يمكن لهؤلاء الدخول والتمترس خلف القوات الأمنية ويقتلون المتظاهرين والحكومة لا تعلم بهم".
وأشار إلى أن هذه القوات مدعومة من خارج العراق وأسلحتها من خارجه، وهذا ما أكده وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري عندما أوضح أن الأسلحة المستخدمة، لم تستوردها أي جهة عراقية.
وأضاف الجبوري أن الحكومة لا تمتلك القوة والشجاعة للكشف عن تفاصيل الجهة المتهمة بقتل المتظاهرين وهي تجامل قوى معينة، لافتاً إلى أن تصريح الحكومة بوجود الطرف الثالث، لا يعفيها من المسؤولية، بل على العكس، يضاعف عليها المسؤولية القانونية والأخلاقية بضرورة كشف الحقائق. واعتبر أن اعترافها بوجود طرف ثالث هو اعتراف منها بأنها غير كفوءة وغير قادرة على حماية المتظاهرين.
العودة إلى البند السابع
أدّت الاحتجاجات إلى عددٍ كبيرٍ من الشهداء والجرحى، كما سُجلت حالات إعاقة نتيجة القمع الذي مورس بحق المتظاهرين، إذ ذكرت وزارة الصحة أن حالات الإعاقة تجاوزت 700 حالة.
ومع اتساع عمليات القتل العمد للمتظاهرين عن طريق الرصاص الحي أو توجيه قنابل الغاز المسيل للدموع لمناطق الرأس والصدر، طالبت المنظمات الدولية بالكف عن قتل المتظاهرين، وبدأت التقارير التي تخص الانتهاكات بالتزايد. فتلك الصادرة عن "منظمة العفو الدولية" تطرقت في تفاصيلها إلى نوع الأسلحة المستخدمة والمحرّمة دولياً وإلى نوع الإصابات التي سبّبتها.
كما أشار تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش" الى أن قوات مكافحة الشغب أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية على المسعفين وسيارات الإسعاف، موضحاً أن جرى استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، منتهية الصلاحية، ما يشكل خطراً كبيراً. وأضافت المنظمة في تقريرها أن "المعدات المنتهية الصلاحية يجب ألاّ تُستخدم في الشارع ويجب إخراجها من التداول وتدميرها وفقاً لبروتوكولات بيئية دقيقة".
اتساع هذه الانتهاكات، قد يرجع العراق مجدداً إلى الفصل السابع بعدما خرج منه عام 2017، علماً أن البلاد كانت قد وقعت تحت طائلته بسبب دخولها الكويت، ففرضت الأمم المتحدة على العراق حصاراً اقتصادياً ووضعته تحت البند السابع. وألزمت العقوبات بغداد دفع تعويضات للكويت بلغت 52 مليار دولار.
في سياق متصل، يقول المحامي والخبير القانوني علي التميمي "إن وضع العراق حالياً مهيّأ للدخول والعودة مجدداً إلى البند السابع، فليست الحرب وحدها التي تُدخل الدول في خانة هذا البند، بل انتهاكات حقوق الإنسان لها الأثر الكبير لوضع الدول تحت طائلة الفصل السابع".
ويضيف أن الدول ملزمة وفقاً لميثاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بحماية مواطنيها، وأن ما يحدث في العراق وفق وصف التميمي هو "إبادة جماعية"، مؤكداً أن موقف العراق عصيب للغاية في ظلّ استمرار الانتهاكات بحق المتظاهرين.
وأشار إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان قد تعود بنا إلى برنامج "النفط مقابل الغذاء"، وبموجب هذا القانون لا يستطيع العراق عقد الاتفاقيات أو التصدير، إلاّ بموافقة الأمم المتحدة، وبذا يصيب الشلل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ويغدو العراق، وفقاً لذلك، فاقداً للأهلية وناقص السيادة.