تواجه إيران في الوقت الراهن حسابات معقدة ورهانات غير مأمونة العواقب، ما بين حرب محتملة مع الولايات المتحدة، وخسارة نفوذها عبر الشرق الأوسط وأخطار تلاحق الدولة الثورية التي تأسست عام 1979. فمن غير الواضح كيف سيتعاطى النظام في طهران مع هذا الاختبار وهل سيواجه سياسة الضغوط القصوى بتصعيد عسكري أم بالاستجابة للحلول الدبلوماسية أو أنه سيتعامل معها بمزيج بينهما؟
وتعتبر دوائر سياسية في الولايات المتحدة أن هذه اللحظة الحاسمة لطهران ولدتها عدة عوامل أبرزها التأثير المتراكم لأخطاء المسؤولين داخل النظام الإيراني، والامتداد المفرط إقليمياً للدور الإيراني وحملة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأسهمت بقوة في تراجع الاقتصاد الإيراني بشكل خطير.
الخيار الصعب
ويقول فريدريك كيمب، رئيس المجلس الأطلسي وهو أحد مراكز التفكير والدراسات المؤثرة في واشنطن، إن ما لا يمكن إغفاله أن اتساع نطاق التحديات التي يواجهها النظام الإيراني يجعل من الصعب عليه الاستمرار في نهجه السابق حيال الضغوط الأميركية، وهو انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 على أمل فوز الديمقراطيين بها ورحيل إدارة ترمب عن السلطة.
لكن من غير الواضح ما إذا كانت طهران ستتعامل مع هذه اللحظة التاريخية الحاسمة بمزيد من التصعيد العسكري أم بالسعي لحلول دبلوماسية أم بمزيج بين الدبلوماسية والتصعيد العسكري.
عرض أميركي مُمكن
ويرى دبلوماسيون في الشرق الأوسط أن الولايات المتحدة وضعت نفسها في موضع جيد يمكنها من تشكيل ورسم الخيارات المتاحة أمام إيران، حيث تستطيع الإدارة الأميركية أن تستفيد من الصعوبات المتزايدة لإيران عبر العمل عن قرب مع حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط للاتفاق على عرض دبلوماسي لتخفيف العقوبات المفروضة عليها، على أن تحل محلها عملية تغلق أي مسار إيراني لإنتاج أسلحة نووية وتُنهي سياسة التدخلات السياسية الإيرانية في الشرق الأوسط.
ومع ذلك فإن هذا العرض الدبلوماسي يبدو مجرد تمنيات - حسب الباحث فريدريك كيمب - في عالم تبدو فيه إدارة ترمب منشغلة بصراعات الداخل مع الديمقراطيين ومحاولات عزل الرئيس، فضلاً عن عدم الثقة المتبادلة على جانبي المحيط الأطلسي بين الأوروبيين والأميركيين، ناهيك عن حنق النظام الإيراني مما يجري الآن داخلياً وفي محيطه الخارجي.
فمن ناحية، تعتقد الإدارة الأميركية أن العقوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضتها أدت على الأقل إلى خفض كبير في المصادر المالية الإيرانية والتي كان من الممكن أن تنفقها على الجماعات الوكيلة لها في لبنان والعراق واليمن وغيرها، كما أن الاحتجاجات داخل إيران وخارجها تستنزف طاقات النظام الإيراني.
أخطار مُحتملة
غير أن الأخطار المحتملة التي يمكن أن تلجأ إليها إيران تتمثل في مزيد من التصعيد العسكري بهدف صرف الانتباه عن أزماتها وتأكيد قدرتها على استمرار نفوذها مثلما فعلت من قبل في 20 يونيو (حزيران) الماضي، حينما أسقطت طائرة مسيرة أميركية خارج مجالها الجوي، وفي 14 سبتمبر (أيلول) حين انطلقت هجمات للإضرار بمنشآت نفطية سعودية.
وقد تلجأ طهران إلى اتخاذ خطوات أخرى بعيداً عن الاتفاق النووي المُبرم عام 2015، بعدما سلكت بالفعل هذا الطريق واستأنفت في الشهر الحالي تخصيب اليورانيوم منخفض المستوى بنسبة 60 في المئة في منشأة فوردو جنوب طهران، مما يجعلها تقترب تدريجياً من نسب تخصيب مرتفعة (90 في المئة) قد تمكنها من إنتاج قنبلة نووية عند وصولها إلى تخصيب 1050 كيلوغراماً من اليورانيوم.
ومع رفض إيران الدخول في مفاوضات مطولة مع الولايات المتحدة من دون رفع العقوبات الأميركية، يبدو أنه من الصعب عليها تصور استمرار الحالة الراهنة مع اقتصاد يتهاوى واحتجاجات تتصاعد منذ 15 نوفمبر، ما شكل تحديات للنظام الإيراني جعلته يواجه المتظاهرين بعنف بالغ أدى إلى مقتل أكثر من 300 في 21 مدينة إيرانية وفقاً لمنظمة العفو الدولية. وهي تقديرات يصعب التأكد من منها في ظل التقييد على الإنترنت من قبل السلطات الإيرانية.
خسائر بالمليارات
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما تتواصل الاحتجاجات القوية في كل من العراق ولبنان مستهدفةً النفوذ الذي تمارسه إيران عبر جماعاتها الوكيلة، تواجه طهران خسارة نفوذها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط الذي يقول مسؤولون أميركيون إنه كلفها 16 مليار دولار أميركي في العراق ولبنان واليمن منذ عام 2013 وحتى الآن، منها 700 مليون دولار تُنفق سنوياً على حزب الله وحده، إضافة إلى 10 مليارات دولار أنفقتها إيران في سوريا.
هذا الدعم المالي واللوجستي والسياسي الإيراني من الصعب أن يستمر بالنظر إلى تقارير أشارت إلى قيام حزب الله بجهود لجمع تبرعات وأموال خلال الفترة الأخيرة.
ملامح التغيّر
ما تغير أيضاً، هو إعتراف القادة الإيرانيين بتزايد الضغوط الاقتصادية عليهم بعد أشهر طويلة من الإصرار على قدرتهم على تحمل قسوة العقوبات الأميركية. فقد اتضح أنهم اتخذوا إجراءات غير مسبوقة وأخرى وقائية لمواجهة المشكلات المالية والاقتصادية، ومنها رفع أسعار البنزين بنسبة 50 في المئة و200 في المئة بعد تجاوز حصة مقررة من البنزين.
وهذا ما أكده تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني حينما قال إن "الجميع يعلم تماماً أننا لسنا في ظروف اعتيادية"، واصفاً الوضع بأنه الأسوأ اقتصادياً لإيران على مدى أربعة عقود، مضيفاً "الوضع معقد، ومنذ بداية الثورة وحتى اليوم، لم نواجه كثيراً من الصعوبات في تسيير ناقلة نفط من موانئنا إلى العالم مثلما نواجه اليوم".
أثر العقوبات
وعلى الرغم من أن الإحصاءات الصادرة عن إيران لا يمكن الوثوق بها، فقد انخفضت الصادرات من 2.5 مليون برميل يومياً عقب رفع العقوبات عام 2016 إلى 400 ألف برميل فقط يومياً وفقا للتقديرات الرسمية، وربما إلى 200 ألف برميل في أقل التقديرات.
كما أوضح الرئيس روحاني أن 25 مليار دولار من ميزانية إيران التي تصل إلى 39 ملياراً، تأتي من عوائد الصادرات النفطية.
أكثر من ذلك، توقع صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد الإيراني بنسبة 9.5 في المئة، وتجاوز نسبة التضخم في البلاد حاجز 35 في المئة، بينما كانت التقديرات الرسمية الإيرانية أكثر تشاؤماً حين توقعت أن يصل التضخم إلى 42 في المئة.
ما الذي تريده إيران؟
وستكون الأمور أسوأ كثيراً بالنسبة إلى النظام الإيراني، إذا ما وجدت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أن الوقت قد حان لإعادة فرض العقوبات الدولية ضد إيران بسبب انتهاكها الاتفاق النووي المبرم عام 2015. وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الألماني هيكو ماس، عندما أشار إلى ضرورة الاستعداد للنظر في تنفيذ هذه الخطوة بالتزامن مع جهد دبلوماسي مكثف مع طهران.
وكما يشير دبلوماسيون غربيون، فإن المشكلة تكمن في صعوبة التيقن مما تريده إيران على المستويين الوطني والإقليمي. كما أنه من الصعب معرفة من هو الأكثر نفوذاً وتأثيراً الذي يمكن التفاوض معه في إيران، حيث يُمسك المرشد الأعلى علي خامنئي – الذي لم يفاوضه أحد من قبل - بكل الأوراق.
ومع عدم إمكانية توقع التعاطي الإيراني مع الأزمة خلال الأيام والأشهر المقبلة، ينصح خبراء أميركيون باستمرار وتوسيع نطاق سياسة الضغوط القصوى على النظام الإيراني وفي الوقت نفسه الاستعداد لتصرفات إيرانية غير متوقعة ولكن مع التركيز على استخدام سياسة الردع بالتوازي مع الجهود الدبلوماسية.