اختبرت إيمان عباس في أعوامها الـ 18 أكثر مما كان يفترض بالحياة أن تمليه عليها... الشابة الأيزيدية كانت سبية لدى تنظيم "داعش"، قبل أن تنجو وتنتقل للدفاع عن حقوق الناجين من المعاناة في شمال العراق.
وتقول عباس بصوتها الخافت لوكالة الصحافة الفرنسية، إنه في منزل ذويها المتواضع في مخيم شاريا للنازحين في دهوك بإقليم كردستان "نظراً لما مررت به، لا أعتبر نفسي مراهقة".
عادت الفتاة طويلة القامة ذات الشعر الداكن اللون، في الفترة الأخيرة إلى العراق من مدينة بومباي الهندية، حيث تسلمت جائزة الأم تيريزا المرموقة نيابة عن مكتب الإنقاذ الأيزيدي الذي تعمل معه.
ووفر المكتب المساعدة لإعادة دمج نحو خمسة آلاف شابة اتخذهن التنظيم سبايا، عقب هجومه عام 2014، والذي سيطر خلاله على مناطق واسعة في شمال غربي العراق، حيث موطن الأقلية الأيزيدية.
وتقول عباس التي ارتدت الزي الأيزيدي التقليدي الأبيض، "عندما رويت قصتي وقصص ناجيات أيزيديات أخريات، بدأ بعض الحاضرين بالبكاء". وتضيف "ساهم الاحتفال في بلسمة بعض جروحي وآلامي، لكنه زاد من مسؤوليتي لمساعدة الناجيات الأخريات".
قضاء سنجار
كانت في الـ 13 من عمرها فقط عندما اجتاح تنظيم "داعش" قرى قضاء سنجار، وقتل آلاف الرجال وخطف فتية مرغماً إياهم على الانخراط في القتال في صفوفه، واتخذ آلاف النساء والفتيات سبايا.
وبعد الخطف، فصلت عباس سريعاً عن عائلتها، وسارع الجهاديون إلى "بيعها" مع أيزيديات أخريات في "أسواق" مخصصة لهذا الغرض، إلى حيث كان يتردد مقاتلو التنظيم لـ"شراء" النساء ونقلهن إلى منازلهم.
وتنقلت "ملكية" عباس ثلاث مرات، لتنتهي برفقة طبيب سابق في الـ 40 من العمر، ينتمي إلى التنظيم المتطرف، وتعهد بأن يطلق سراحها في حال تمكنت من حفظ 101 صفحة من القرآن الكريم.
العقيدة الأيزيدية
نشأت العقيدة الأيزيدية قبل أكثر من ستة آلاف عام، وتُعتبر ديناً غير تبشيري ومغلقاً، إذ لا يمكن لأحد من خارجها أن يعتنقها. والأيزيديون أقلية ليست مسلمة ولا عربية، يشكلون أكثر من نصف مليون شخص، ويتركز وجودهم بشكل خاص قرب الحدود السورية في شمال العراق.
وناصب تنظيم "داعش" هذه الأقلية العداء، واعتبر أفرادها "كفاراً".
ولم يكن سهلاً على عباس التي يتملكها الخوف، حفظ القرآن باللغة العربية وإتقان تلاوته، وإن كان ذلك مفتاحاً لحرية موعودة.
وتقول الشابة الأيزيدية "كل يوم، كان يطلب مني أن أجلس قبالته وأتلو القرآن. تمكنت من حفظ 101 صفحة خلال شهر وأربعة أيام".
على إثر ذلك، نقلها الجهادي إلى مدينة الموصل التي كانت بمثابة عاصمة الخلافة التي أعلنها الزعيم الراحل للتنظيم أبو بكر البغدادي، لإصدار وثيقة من إحدى "محاكمه" تثبت أن عباس "فتاة مسلمة حرة".
انتقلت بعدها عباس إلى مدينة تلعفر في شمال العراق حيث كانت عائلتها مرغمة على العمل في رعاية الخراف لصالح التنظيم.
في العام 2015، تمكن مكتب الإنقاذ من تخليص العائلة من مصيرها، ونقلها إلى مخيم شاريا الذي يضم حالياً 17 ألفاً من النازحين الأيزيديين.
تمضي إيمان أيامها حالياً بين المدرسة والعمل مع المكتب، والمساعدة في البحث عن العديد من الأيزيديات اللواتي لم يعرف مصيرهن بعد، على الرغم من مرور نحو عامين على إعلان العراق "النصر" على التنظيم.
وخلال المعارك التي أفضت إلى استعادة مناطق سيطرة التنظيم في العراق أواخر 2017، وبعدها بأشهر في سوريا، تمكن مئات الأيزيديين من الفرار من خاطفيهم. لكن مصير الآلاف من الذين فقدوا في 2014 وما بعده، لا يزال مجهولاً، وفق مكتب الإنقاذ.
اعتناق الإسلام
وبحسب مسؤولين أيزيديين، يعتقد أن العديد من هؤلاء اعتنقوا الإسلام وباتوا يقيمون حالياً مع عائلات مسلمة، ويخشون العودة إلى مناطقهم لسببين: أحدهما "العار" الذي يشعرون به حيال الأيزيديين الآخرين، وثانيهما "غسل دماغ" أنساهم جذورهم.
وتؤكد عباس أن جزءاً من مسؤوليتها في مكتب الإنقاذ يقوم على إقناع الفتيات والنساء بالعودة إلى عائلاتهن.
والتقت عدداً من اللواتي تم إنقاذهن لتوثيق قصصهن في أرشيف المكتب، وهي مهمة تقول إنها تشعرها "بالسعادة والحزن في الوقت عينه".
وتوضح "عليّ سماع كل هذه القصص المروعة، وكل منها مختلفة عن الأخرى. كلها مؤلمة جداً، وبعضها أكثر إيلاماً من قصتي".
على الرغم من ذلك، تفخر بدورها "وأن أكون جزءاً من عملية إنقاذ نساء ناجيات".
ويشابه المسار الذي تخطه عباس لنفسها حالياً ما قامت به الناجية من التنظيم ناديا مراد التي حملت قضية الأيزيديات إلى العالم، ونالت في العام الماضي جائزة نوبل للسلام.
بومباي
في مخيم شاريا، باتت عباس وجهاً معروفاً منذ تسلمها الجائزة في بومباي. ويتلقى ذووها اتصالاً هاتفياً تلو الآخر للتهنئة على ما تقوم به.
ويقول والدها عبدالله "في البداية، كانت كلما تحدثت عن الفترة التي خطفت فيها، أدير ظهري لها لأن سماع ذلك وجهاً لوجه كان مؤلماً جداً".
لكن الوالد يريد الآن لكل ناجية أيزيدية أن تروي قصتها، لإيمانه بأن ذلك سيساعد الفتيات أنفسهن، وأيضاً كامل الأقلية التي اختبرت عذاباً أليماً.
ويوضح "لاحظت أن إيمان أصبحت أكثر سعادة وقوة مذ بدأت تروي قصتها علناً".
حالياً، بدأت الشابة أخذ دروس في اللغة الإنجليزية، كخطوة أولى على درب أحلام طموحة. وتقول "في المستقبل، أريد أن أصبح محامية لأنال خبرة في القانونين العراقي والدولي لأدافع عن حقوق الأيزيديات الناجيات، وأيضاً الضحايا الآخرين لتنظيم داعش".