رغم إعلان السلطات الإيرانية قبل أيام عن استعادة الهدوء في البلاد، وكأن الحكومة "انتصرت" على المحتجين على رفع اسعار الوقود ثلاثة أضعاف، إلا أن الصور التي يتم تسريبها من الداخل الإيراني وبعض المكالمات الهاتفية الصعبة مع ايرانيين في الداخل لا تعكس تلك الصورة الرسمية عن توقف الاحتجاجات.
ربما أفلحت السلطة بقطع الانترنت واتصالات الموبايل بشكل كامل عن 80 مليون ايراني الأسبوع الماضي في وقف تدفق الأخبار إلى الخارج وكذلك عزل الايرانيين عن العالم، لكن الفيديوهات القليلة التي تخرج من هناك بعد عودة الانترنت تدريجيا تظهر بعض احياء طهران ومدن أخرى – خاصة شيراز التي شهدت أعنف الاحتجاجات – وكأنها "مناطق حرب".
فما تزال آثار حرائق الشوارع والزجاج المتناثر تطغى على الصور بينما تحولت .
وفي اتصالات هاتفية بين إيرانيين في الخارج والأهل والأصدقاء في الداخل وصف هؤلاء الوضع بعكس ما تعلنه السلطات، وأقل وصف هو أنه "متوتر ومشحون" ويخشى كثير من الإيرانيين الخروج من منازلهم بسبب التواجد الأمني الكثيف والدعاية الداخلية للنظام بأن المتظاهرين "عملاء".
وتقول مترجمة إيرانية زوجها طبيب وتعيش في طهران إن الوضع لا يمكن وصفه بالهدوء، وإن كثيرا من الناس لا يرسلون أولادهم للمدارس. والمثير أنها نقلت عن زوجها أن وزارة الصحة أبلغت المستشفيات بالتوقف عن اجراء العمليات الجراحية المجدولة نظرا للضغط على المستشفيات نتيجة الإصابات حتى الآن.
ويعزز ذلك تقديرات منظمات دولية بأن عدد القتلى في الاحتجاجات يفوق المئة وأن عدد المعتقلين يزيد عن الألف وليس كما قالت السلطات انها اعتقلت مئة شخص فقط. ويقول شخص آخر يعيش في اصفهان ان المدينة تكاد تكون "قبرا" بسبب الانتشار الأمني وخوف الناس من الخروج.
وذكر أحد الطلاب في جامعة بطهران أن عناصر الباسيج يدخلون الحرم الجامعي في سيارات الإسعاف التي تنقل المصابين ويقومون باعتقال الطلاب المتواجدين في الجامعة.
عزل البلاد
ضاعفت السلطات الإيرانية من عزلتها في العالم بعزل السكان عن العالم وعن بعضهم البعض بقطع الانترنت نهائيا، إذ تتحكم الحكومة في بوابتي الانترنت الوحيدتين في البلاد. وأبقت على الشبكة الداخلية (التي توصل الحكومة وإداراتها فقط) تعمل لتضمن عن طريقها استمرار العمل في المرافق والمنشآت العامة.
ونتيجة الانتقادات الواسعة، بدأت السلطات في إعادة الانترنت المنزلي تدريجيا قبل أيام. وحسب موقع نت بلوكس الذي يقيس نفاذ الانترنت حول العالم فإن الانترنت عبر الواي فاي في البيوت عادت بنسبة 65 في المئة، إلا أن الانترنت عبر الموبايل ما زال مقطوعا. كما أن اتصالات الموبايل لم تهد إلا بنسبة 25 في المئة تقريبا.
ولجأت السلطات الإيرانية من قبل لقطع الانترنت لمع المحتجين من التواصل وتنظيم مظاهراتهم عبر مواقع التواصل، خاصة موقع تليغرام الشهير بين الإيرانيين، في مناسبات سابقة مثل مظاهرات 2009 التي استمرا ثمانية أشهر احتجاجا على إعادة انتخاب الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد الذي اتهم حينها بتزوير نتائج اعادة انتخابه وأيضا في مظاهرات 2017 احتجاجا على غلاء المعيشة.
لكن المراقبين يرون أن هذه المرة كانت الأوسع نطاقا في قطع الانترنت واتصالات الهواتف الموبايل بشكل غير مسبوق حتى وصفها البعض بأنها "عزل البلاد تماما".
وكان قطع الانترنت السبيل المتبقي للسلطات بعدما لم تفلح قوات الأمن وميليشيات الباسيج في الحد من الاحتجاجات رغم استخدام الرصاص الحي في تفريق المتظاهرين. كما أن السلطات تدرك تأثير المظاهرات والاحتجاجات في العراق المجاور وفي لبنان التي تملك ايران ذراعا فيه هو حزب الله على الجمهور الإيراني.
خاصة وأن المتظاهرين بدأوا يرددون شعارات رفعت قبل عامين في مشهد وطهران وغيرها من المدن تندد بانفاق الحكومة الأموال على أذرع غيران الخارجية في لبنان واليمن والعراق بينما الشعب الإيراني يعاني شظف العيش.
بدايات شقاق
ويبدو أن قرار رفع اسعار الوقود، الذي أيده المرشد علي خامنئي في دعم لسياسات الرئيس حسن روحاني، أصبح فرصة حتى لسياسيين رسميين لتصفية الحسابات مع حكومة روحاني. وللمرة الأولى أيضا تتعرض أعلى سلطة دينية في البلاد للنقد الصريح والعلني، كما فعل السياسي البارز أبو الفضل غادياني الذي أصدر بيانا ألقى فيه باللوم على الاحتجاجات و"سيلان دماء الايرانيين" على المرشد علي خامنئي.
وقال غادياني إن تأييد المرشد لقرار رفع اسعار الوقود لم يترك فرصة للحكومة كي تتراجع عنه، وأضاف: "الشخص الرئيسي والوحيد المسؤول عن اراقة الدماء هو السيد خامنئي، ويجب محاسبته على ذلك".
وكانت الحكومة في السابق تستغل الموقف الغربي في تبرير وضع الإيرانيين المعيشي الصعب، إلا أن ذلك على ما يبدو لم يعد يجدي نفعا. فالإيرانيون الذين تحملوا سنوات طويلة من العقوبات لم يعودوا يقبلون بأن السبب هو "الغرب" فقط وإنما يلومون قيادتهم على ما وصلت إليه الأوضاع.
وهذا ما جعل بعض التيارات داخل السلطة تحاول النأي بنفسها عن الجناح المتشدد الذي يمثله المرشد وقوات الميليشيات التي تأتمر بأمره مباشرة بعيدا عن سلطة الحكومة. لكن المشكلة أن الرئيس روحاني، الذي يوصف بأنه اصلاحي، لم يعد لديه أدوات تمكنه من الاستفادة من هذا الشقاق المحتمل.
وتبدو الطبقة السياسية في إيران أقرب لموقف كثير من الإيرانيين الغاضبين من الأوضاع والناقمين على السلطة لكنهم يخشون فقدان البلاد في الفوضى. وتلك هي الشعرة الوحيدة التي تبقي على الاحتجاجات الحالية دون أن تتحول إلى قوة تغيير كالتي اطاحت بنظام الشاه عام 1979.
إلا أن بعض المراقبين يرون أن استمرار تعميق العقوبات، التي تصفها الولايات المتحدة بأنها "الضغط الأقصى" يمكن أن يؤدي إلى تغيير جذري في إيران. ويستشهد هؤلاء بأنه منذ 2017 والاحتجاجات لم تختف تماما من إيران، وإن أفلحت السلطات في اخمادها حينا والتغطية عليها حينا آخر.