على الرغم من البعد الجغرافي بين البلدين، تميزت العلاقات التونسية التركية بالإيجابية وتداخل فيها الحاضر بالماضي. لكن الفترة التي شكلت منعطفاً تاريخياً في العلاقة بين البلدين، كانت في إعجاب الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة بشخصية مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك وشجاعته، الذي اعتبره قدوة له في تطوير المجتمع وتحديث القوانين والدولة.
بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، في العام 2011، وفوز حركة النهضة في الانتخابات الديموقراطية الأولى، تعزّزت العلاقات بين البلدين في شكل غير مسبوق، لكن ليس من باب المعاملة بالمثل، خصوصاً أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يجد رضى وقبولاً في أوساط الإسلاميين في تونس، الذين يعتبرون النموذج التركي مثالاً لا مفر من تطبيقه والاقتداء به.
تطور مهتز
شهدت العلاقات بين البلدين بعد استقلال تونس تطوّراً مطرداً توّج بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة في العام 2004، وكان هدفها إيجاد منطقة تجارة حرّة بين الطرفين، وامتازت بإعفائها جميع المنتجات الصناعية من الرسوم الجمركية بالكامل.
هذه الاتفاقية فتحت الأبواب، خصوصاً بعد العام 2011، لغزو البضائع والمنتجات التركية الأسواق التونسية، في شكل أدى إلى ضرب قطاعات إنتاجية تعتبر مفخرة الصناعات التونسية، خصوصاً صناعة النسيج والملابس الجاهزة، ما تسبب بإغلاق عشرات المعامل. ووفق سمير بشوال، كاتب الدولة للتجارة الداخلية، فإن تونس تخسر كل سنة 374 مؤسسة متخصصة في صناعة النسيج نتيجة منافسة المؤسسات العالمية لها في الأسواق التونسية، وتحديداً التركية والصينية، وفي درجة أقل الأوروبية.
عجز تجاري كبير لمصلحة تركيا
بلغ حجم المبادلات التجارية بين تونس وتركيا في العام 2018 ما يزيد عن المليار دولار، وفاق فيها العجز التجاري 750 مليون دولار. وهو رقم كبير بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي، الذي يعاني ارتفاعاً كبيراً للدين الخارجي وانهياراً في قيمة الدينار، في ظل عدم نجاح جهود إعادة دفع الاستثمار وتحقيق انطلاقة اقتصادية جديدة.
وقال معز الجودي، الخبير الاقتصادي التونسي، إن تونس مثل كل دول العالم لديها في ميزانيتها عجز تجاري بين الصادرات والواردات، وقد كان قبل العام 2011 حوالي 4 مليارات دولار سنوياً، لكنه ارتفع في العام 2018 إلى حوالي 7 مليارات دولار، وهو رقم كبير جداً نسبة إلى حجم الميزانية.
وأضاف الجودي أن أكبر نسب هذا العجز هو مع الصين وتركيا. وإذا كانت كل دول العالم لديها عجز تجاري كبير مع الصين، فإن المستغرب هو العجز التجاري الكبير وغير المبرّر مع تركيا، الذي وصل إلى حوالي 750 مليون دولار هذه السنة. ويشير إلى أن نتائج مراجعة الاتفاقيات المشتركة بين البلدين وفرض ضرائب عليها لا وجود لها على أرض الواقع، بل هناك بعض الممارسات غير الخاضعة للرقابة، سواء على مستوى مراقبة دخول البضائع التركية أو كيفية سداد ثمنها، إذ يتم دفع بعض مستحقات الشركات التركية بالدينار التونسي وليس بتحويلات عبر البنوك، ما يطرح كثيراً من الأسئلة في شأن هذه المسألة.
الغزو التجاري يتجاوز الخطوط الحمر
الغزو التجاري التركي للأسواق التونسية بدأ بعد انتخابات العام 2011، التي فازت فيها حركة النهضة بالحكم، لأنها تعتبر أن تركيا حليفها الإستراتيجي. في تلك الفترة، وقّعت عشرات الاتفاقيات وطُور اتفاق الشراكة وفُتحت الأسواق التونسية أمام البضائع التركية، ليتم توريد نحو 89 مجموعة متنوعة من البضائع، في مقدمها النسيج والملابس الجاهزة. والحال أن هذه الواردات تنافس في شكل كبير الصناعات التونسية وتتسبب بخسائر كبيرة للمعامل وترفع من نسب العاطلين من العمل نتيجة إفلاس المؤسسات المُشغلة.
تنبهت الحكومة التونسية، عام 2013، للتعديلات التي أدخلتها حكومة حركة النهضة على اتفاقية التبادل التجاري الحر، التي سهلت على البضائع التركية غزو الأسواق من دون مقابل يعادلها في مستوى التصدير. وفي محاولة للحد من الخسائر، أقرّت الحكومة في ميزانية العام 2018 فرض رسوم جمركية على عدد من المنتجات التركية، في محاولة لتعديل العجز في الميزان التجاري، إلا أن هذه الإجراءات لم تتمكن من خفض نسبة العجز المتزايدة سنة بعد أخرى.
اعتراف تركي بالأزمة وتجاهل الحلول
اعترف فولكان بوزكير، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس الوطني التركي، خلال زيارته تونس، باختلال الميزان التجاري بين البلدين، مبرزاً ضرورة التفكير في زيادة الصادرات التونسية إلى تركيا، ورفع قيمة التبادل التجاري إلى حوالي ملياري دولار في الفترة القريبة المقبلة.
وعلى الرغم من كل الوعود والتعهدات، لاتزال الصادرات التونسية إلى تركيا تعتمد أساساً على مواد غير مصنّعة، مثل الفوسفات الخام وزيت الزيتون، اللذين يُعاد تصنيعهما بما يساعد الاقتصاد التركي، بينما لا تسهّل تركيا دخول البضائع أو المنتجات التونسية إلى أسواقها، ولا تشجّع رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار في تونس وشراء منتجاتها.