فرضت السلطات العراقية حظراً للتجوّل في مدينة الناصرية الواقعة في جنوب العراق الخميس 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد مقتل 22 متظاهراً بالرصاص في إطار الحملة الأمنية ضد المحتجين المناهضين للحكومة.
ويأتي ذلك غداة إضرام بعض المتظاهرين النار في القنصلية الإيرانية في مدينة النجف.
إحراق مقر قيادة الشرطة
وعلى الرغم من حظر التجول الذي فرضته السلطات وارتفاع عدد القتلى، تجمع المتظاهرون وتمكنوا من السيطرة على جسر الزيتون في الناصرية، واقتحموا على إثر ذلك مقر قوة التدخل السريع وأحرقوه بالكامل.
ويستمر إطلاق النار منذ الصباح الباكر في الناصرية ما أدى إلى مقتل 15 شخصاً وإصابة أكثر من 150 آخرين بحسب مصادر طبية، لدى محاولة القوات الأمنية تفريق المتظاهرين.
وفي محافظة النجف جنوب العراق أصيب خمسة متظاهرين وشهدت المنطقة انتشاراً أمنياً كثيفاً تحسباً لأي طارئ، بينما تحدث شهود عن سماع إطلاق نار قرب مطار النجف.
تشكيل خلية أزمة
وتاتي عملية القمع الواسعة بعد ساعات من إعلان تشكيل خلية أزمة عسكرية في المحافظات الجنوبية المنتفضة لإدارة الملف الأمني فيها، وإعادة النظام.
وتسلم الفريق جميل الشمري الذي كان قائداً لعمليات البصرة خلال التظاهرات الدامية في صيف 2018، مسؤولية الملف الأمني في الناصرية.
وطالب محافظ ذي قار عادل الدخيلي رئيس الوزراء بإبعاد الفريق جميل الشمري لإخلاله بأمن المحافظة، كما دعا إلى "تشكيل لجنة تحقيق ومعاقبة كل من تسبب بسقوط دماء أبناء المحافظة".
وجاء في بيان الجيش العراقي أنه "تم تشكيل خلايا أزمة برئاسة السادة المحافظين... وتقرر تكليف قيادات عسكرية لتكون أعضاء في خلايا الأزمة وتتولى القيادة والسيطرة على كل الأجهزة الأمنية والعسكرية في المحافظات ولمساعدة السادة المحافظين في أداء مهماتهم".
إيران تحمل العراق المسؤولية
في موازاة ذلك، حمّلت إيران على لسان المتحدث باسم خارجيتها عباس موسوي الحكومة العراقية مسؤولية حماية قنصليتها في النجف.
ونقل التلفزيون الرسمي عن موسوي قوله "الحكومة العراقية مسؤولة عن حماية المراكز والبعثات الدبلوماسية لديها... طهران تستنكر بقوة هذا الاعتداء وتطالب باتخاذ إجراءات مسؤولة وحازمة ومؤثرة من قبل الحكومة العراقية في مواجهة العناصر المخربة والمعتدية".
وقالت وكالة الجمهورية الإسلامية الإيرانية للأنباء إن موظفي القنصلية، والذين تم إجلاؤهم من المبنى قبل قليل من اقتحامه، "سالمون وبخير".
إحراق القنصلية
وكان محتجون عراقيون أحرقوا مساء الأربعاء، مقر القنصلية الإيرانية في مدينة النجف، على الرغم من استخدام قوات الأمن العراقية الرصاص لتفريقهم وتعزيزها إجراءاتها الأمنية في محيط القنصلية.
من جهة أخرى، قالت مصادر أمنية وطبية في العاصمة بغداد لوكالة الصحافة الفرنسية إن متظاهرين قتلا بالرصاص الحي خلال مواجهات مع قوات الأمن دارت الأربعاء عند جسر الأحرار.
وأشارت المصادر إلى إلى إصابة ما لا يقل عن 25 متظاهراً بجروح بالرصاص الحي وقنابل الغاز المسيلة للدموع.
وسط وجنوب العراق
تصر محافظات الوسط والجنوب في العراق على ربط احتجاجاتها بتعطيل العمل والدراسة في الدوائر والمدارس والجامعات، لحين الاستجابة لمطالبها.
التحقت هذه المحافظات في 25 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بالاحتجاجات التي انطلقت مطلع الشهر نفسه في العاصمة العراقية، ليتصاعد زخمها برغم الملل الذي بدأ يتسرب إلى تظاهرات بغداد.
قال نشطاء من مدن وسط وجنوب البلاد لـ "اندبندنت عربية"، إنهم يعتقدون أن استمرار التظاهرات وسط حياة طبيعية لا معنى له، مشيرين إلى أن الإضراب عن العمل والدراسة سيشل حركة الحكومة ويجبرها على الانصياع لمطالب المتظاهرين.
طُبق العصيان المدني والإضراب مبكراً في مدينتي البصرة والناصرية، وسرعان ما انتقل إلى الديوانية والمثنى وبابل والنجف وكربلاء.
إطارات جديدة
والأربعاء، نزل المحتجون إلى شوارع البصرة والديوانية والمثنى وكربلاء والنجف، ليضرموا النار في إطارات سيارات جديدة، بعدما نفدت منهم المستعملة، معلنين إغلاق العشرات من الطرق الداخلية والخارجية.
تميزت احتجاجات الأربعاء باتفاق المتظاهرين في جميع المحافظات على إغلاق أكبر عدد من الطرق والتقاطعات والدوائر الحكومية والمدارس.
لم تكن أعداد المتظاهرين كبيرة يوم الأربعاء في هذه المحافظات، لكنها كانت كافية لشل حركة مراكز المدن، وجذب أنظار وسائل الإعلام.
يؤكد نشطاء أن المتظاهرين يدركون أن الحكومة تراهن على سياسة النفس الطويل والصبر، لذلك لم يعودوا الى حشد أعداد كبيرة في الساحات، قدر اهتمامهم بوجود أعداد متظاهرين كافية للحفاظ على مواقع الاحتجاج أو التأثير على الحياة العامة.
ويستهدف المتظاهرون تعطيل العمل الرسمي والدراسة، إلا في الدوائر الحساسة، كالصحة والماء والكهرباء، وبينما تمكنوا من فرض رغبتهم في مدن، واجهوا رفضاً حكومياً عنيفاً في مدن أخرى.
شلل في البصرة واشتباكات في السماوة
قال مراسل "اندبندنت عربية" إن المحتجين أغلقوا طرقاً عدة في مركز مدينة البصرة الغنية بالنفط، ما تسبب في شل الحركة المروية.
في السماوة، تقدمت قوات الأمن صباح الأربعاء لتفريق احتجاجات في مركز محافظة المثنى، لكن المتظاهرين صمدوا في مواقعهم. وبعد انجلاء الموقف، تبين سقوط عدد من المصابين في صفوف الطرفين.
شرعت القوات الأمنية ظهراً، في عمليات لفتح الشوارع التي أغلقها المتظاهرون صباحاً، مستعينة بتعزيزات كبيرة، لكنها واجهت مصاعب كبيرة.
سلطات الناصرية تستسلم
على سبيل المثال، تخلت السلطات المحلية في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، عن فكرة مواجهة الإضراب الوظيفي والطلابي، بعدما أيقنت أن المحتجين لن يتنازلوا عنه.
لم تعد هذه السلطات تعترض طريق المحتجين، عندما يقررون نصب خيام الاعتصام في أي موقع، حتى لو كان جسراً حيوياً يربط منطقة سكنية كبيرة بأخرى تجارية.
أما في كربلاء، فيختلف الوضع، إذ تدفع السلطات المحلية بأصناف مختلف من القوات الأمنية، نحو ساحات الاعتصام، ليل نهار، لتفكيكها، وفتح الطرق المغلقة بسببها.
أجواء مشحونة في كربلاء
في بعض الحالات أحرقت القوات الأمنية خيام الاعتصام، وفتحت النار على المحتجين. ويوم أمس سقط متظاهر في عملية تفريق محتجين في كربلاء.
تعتقد مراكز السلطة في كربلاء أن ما يجري من تحركات في الشوارع هو عمليات تخريب لا تظاهرات، وهي نبرة بدأت تتصاعد، وربما تكون مقدمة لشيء ما ضد حركة الاحتجاج في المدينة.
يقول القيادي البارز في الحشد الشعبي، ميثم الزيدي، وهو أحد المقربين من وكيل بارز للمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، "لا يمكننا تسليم مصير المحافظات، وصورة التظاهرات التي ندعمها ونؤيدها ونعتبرها الأمل الأخير في التغيير، بيد بعض المخربين الذين يقدمون هدية ثمينة للفاسدين ومعارضي التغيير"، داعياً المحتجين إلى تنظيم صفوفهم ومنع "التخريب" الذي يهدد بقتل التظاهرات، على حد وصفه.
قرب بيت السيستاني
أغلق طلبة محتجون في النجف، جامعة الكوفة، فيما تشهد المدينة إضراباً جزئيا عن العمل.
تكتسي الاحتجاجات في النجف، قيمة مختلفة، إذ أنها تحدث ليس بعيداً من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، الذي يدلي بتعليقات خجولة تساند المتظاهرين، الذين يعتقدون أن هذا الرجل من بين القلائل القادرين على إجبار الحكومة لتنفيذ أمر ما، لكنه لا يفعل ذلك حتى الآن.
وحمل كثيرون، السيستاني مسؤولية تمادي الحكومة في قتل المحتجين، لكن أنصار المرجع الأعلى يقولون إن النجف تتحدث بصيغة الإرشاد غير الملزم، وإلا تحول الوضع العراقي إلى "ولاية فقيه" وفقاً للنموذج الإيراني، حيث يمثل رجل الدين أعلى سلطة سياسية في الدولة.
عدد المعتقلين
في هذه الأثناء، كشف رئيس الحكومة عادل عبد المهدي عن عدد المتظاهرين الذين اعتقلوا وأفرج عنهم، وأولئك الذين ما زالوا موقوفين.
قال عبد المهدي إن القضاء أفرج حتى الآن عن 2500 متظاهر معتقل، والمتبقي هم 240، ربما يجري اتهامهم بقضايا تخريب أو اعتداء على قوات الأمن.
يقول نشطاء إن إحصائية عبد المهدي لا تشمل العشرات من المتظاهرين الذين اختفوا من ساحات الاحتجاج أو من منازلهم في بغداد والمحافظات، ولم يوجد لهم أثر في قيود المعتقلين لدى السلطات الرسمية. وفقاً للنشطاء، فإن هؤلاء هم قادة التظاهرات، الذين اختطفتهم ميليشيات عراقية تتلقى الأوامر من إيران، بهدف التأثير على زخم الاحتجاجات.