في الذكرى الثانية لرحيل صاحب الحنجرة الذهبية، المميز بصوته الشجي، والحاصل على جائزة ثاني أفضل صوت من منظمة اليونسف، نسلط الضوء على أبرز محطات أبو بكر سالم، الذي ترك لنا إرثا غنائيا ضخما.. فهو الذي يلقبه نقّاد الفن ملك الدان الحضرمي وعملاق الأغنية الصنعانية، وهو المطرب والملحن والشاعر الأديب الذي صفّق له ملايين المعجبين الخليجيين والعرب برصيد بلغ زهاء 300 البوم غنائي.
بدايات صوفية
أبو بكر بن سالم بن زين بن حسن بلفقيه مواليد 17مارس 1939م مدينة (تريم) في محافظة حضرموت اليمن، ترعرع بلفقيه بعد وفاة والده - وهو لم يكمل عامه الأول - في كنف أسرة اشتهرت بالأدب والعلم، وجده أبو بكر بن شهاب أحد أبرز علماء وشعراء حضرموت، حيث سمي أبو بكر تيمنا به وأخواله من بيت الكاف، وهذه الأسرة أيضا تميزت بالأدب والشعر والثقافة، فاستقى أبو بكر موهبته من أناشيد صوفية يتردد صداها في مساجد تريم التاريخية.
تأثر أبو بكر سالم منذ نعومة أظفاره بالحياة الصوفية السائدة في تريم، وكان يصدح بصوته الشجي تارة مؤذنا وأخرى منشدا لموشحات صوفية أو مترنما بتكبيرات الأعياد.
في منتصف الخمسينات غادر مدينة تريم مستقرا في عدن المدينة التي استطاع فيها أبو بكر أن يغوص في الحياة الفنية، حيث كانت قبلة لعشاق الفن. عمل عازف إيقاع لعدد من الفنانين الأمر الذي أدى إلى صقل موهبته، فبدأ نجمه باللمعان وبدأ في غناء أول أغنية "يا ورد محلا جمالك بين الورود"، وهي من كلماته وألحانه وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.
من عدن إلى بيروت
أطل أبو بكر سالم على المستمعين وهو في الثامنة عشر من عمره عبر إذاعة عدن عام 1956، بباكورته «يا ورد محلا جمالك بين الورود"، والتي أعاد غنائها الفنان السعودي الراحل طلال مداح 1985، فكانت هذه أول أغنية قدمت الفنان الراحل للجمهور العربي.
بعدها ألَّف ولحن العديد من الأغاني التي ارتقت به على سلم الشهرة، ومن أهم أغانيه في تلك المرحلة "خاف ربك"، و"يا حبيبي يا خفيف الروح"، و"سهران ليلي طويل"، كما لحّن، وغنى عددًا من القصائد الفصحى مثل "اسكني يا جراح" للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، و"ليلة شعّت لنا بالنور"، و"أقبلت تمشي رويدا"، ولم يلبث أن تعلم العزف بعد ذلك على آلة العود، وقد التقى في هذه المرحلة بكل من الشاعرين: لطفي جعفر أمان، وحسين أبي بكر المحضار، فغنى للأول "وصفوا لي الحب"، و"كانت لنا أيام"، و"أعيش لك"، وغنى للثاني "ليلة في الطويل"، و"خذ من الهاشمي"، و"تمنيت للحب"، كما غنى في هذه الفترة عددًا من أغاني الدكتور محمد عبده غانم منها: "قولوا له"، و"قال لي با توب"، و"من علمك يا كحيل العين".
في العام 1967 توجه أبوبكر إلى بيروت وسجل فيها مجموعة من الأغاني فاتسعت دائرة متلقيه في اليمن والخليج وبلدان عربية أخرى، ومثّلت هذه الخطوة ميلادا عربيا له، وسجل أغاني جديدة موزعة بموسيقى حديثة كانت في مقدمتها "أربعة وعشرين ساعة" التي استحق عنها جائزة الاسطوانة الذهبية من إحدى الشركات الألمانية، حيث بيع من هذا الألبوم ما يزيد عن من أربعة ملايين نسخة. وأهم أغاني هذه المرحلة التي اتسمت بمفارقة الوطن "إلا فراقك يا عدن" و"يا طائرة طيري على بندر عدن" و"تسلى يا قلبي".
وفي بيروت غنت له نجاح سلام ونازك وليلى شفيق والعديد من الفنانين، وأقام في العاصمة البنانية حتى العام 1975، ومنها عاد إلى عدن، بعدما بلغت شهرته الآفاق، كما ربطته علاقات ودية مع العديد من الشعراء والفنانين والملحنين. تحدث عن هذه العلاقات الفنان والمسيقار أحمد فتحي، فقال: "كانت تجمعنا المحبة والفن يربطنا ببعض إلى جانب التعاون الفني والأخوي، وإن كان هو يكبرني سنا حينها. كنت أشعر أنه أخي الأكبر، كانت المحبة تجمعنا وهذا هو الأهم، فعملنا هذه السلسلة من الأغاني واشتركنا في حفلات عدة. كانت مرحلة مزدهرة جدا في تاريخه"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثنائية مع المحضار
مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان غادر أبو بكر سالم بيروت إلى عدن ثم الكويت، وفي تلك الفترة التقى بالشاعر حسين بن أبي بكر المحضار، وشكل معه ثنائيًا فنيًّا، ليغني زهاء مائتي أغنية من كلماته في تلك الفترة.
وبهذا الخصوص يقول الفنان والباحث الموسيقي جابر علي أحمد: "علاقته بالشاعر والملحن المحضار اتاحت له الارتباط بتجربة فنية غذّت جموحه الفني كثيرا، وعززت من حب الناس له. وباستقراره في المملكة العربية السعودية تأمنت له الامكانيات اللازمة لمواصلة إنتاجه الفني على نحو جعل منه قبلة الباحثين عن المتعة الفنية".
فرادة الأداء
يقول الفنان والمسيقار أحمد فتحي: "التقيت أبو بكر سالم أواخر 1975، كنت حينها أدرس في المعهد العالي في القاهرة حيث عاود النشاط الفني بعد توقف دام سبع سنوات، وبداية التعاون بيننا كان هو شغوف جداً بأن يدخل في اللون الصنعاني، اتفقنا على أن يكون أول عمل له أغنية "وامغرد"، وهي من التراث اليمني المعروف، وبدأنا ننسق العمل لها من تحفيظ وتدريب إلى آخرهِ، وكتبنا النوتة الموسيقية ونفذناها ضمن أول ألبوم له كان في القاهرة، ثم غنى قصيدة الشاعر عبدالعزيز المقالح "ظبي اليمن" وبعدها أغنية "رسولي قوم" و"أحبة ربا صنعاء" وكانت تلك المرحلة كما قال هو رحمه الله من أفضل مراحل العمر" .
كما اشتهرت من أغاني أبو بكر: "قال المعنى لمه"، و"مسكين يا ناس"، و"يا ليل هل أشكو"، و"بات ساجي الطرف"، و"إذا نسيم القرب نسنس".
وأجاد اللون الخليجي من خلال عشرات الأغاني التي قدمها، ولاقت شهرة واسعة في الخليج، ورددها عدد من الفنانين. وإلى جانب ذلك احتوت تجربته على كم هائل من الأغاني الفصيحة لشعراء مشهورين، منهم جده أبو بكر ابن عبدالرحمن بن شهاب، الذي غنى له "حي الربوع"، و"بشراك"، و"بهزّك غصن القد"، و"هو الحي إن عاينته".
كما ظهرت الصوفية في أعمال أبو بكر من خلال أناشيده الدينية مثل: "يا ساكنين طيبة" و"إلى طيبة"، و"بانقرع الباب"، و"إلهي في الفلاة دعاك عبد"، و"يا رب يا عالم الحال".
كذلك غنى ("مي اليمن" الأغنية الوطنية الشهيرة، وبعد حصوله على الجنسية السعودية غنى العديد من الأغاني أولها: "يا مسافر على الطائف"، و"إلا معك في الرياض"، و"برج الرياض"، وكانت أشهرها "يا بلادي واصلي" وهي من كلماته وألحانه، وغنى لخالد بن عبد العزيز، وفهد بن عبد العزيز.
دعمه للشباب والهواة
لم يبخل الفنان الراحل على الفنانين الشباب والهواة في سبيل إيصال الأغنية اليمنية لمدى أوسع. حيث يرجع الكثير من الفنانين الفضل لصاحب الحنجرة الذهبية كما يقول الفنان القدير عبد الرحمن الحداد: "كنت واحدا من تلاميذه وبدأت حياتي الغنائية متأثرا وعاشقا لصوته، وكان أول لقاء به في المكلا حضرموت سنة 1965 عندما زارها وأقام بها سهرة، وكنت واحدا من أعضاء الكورال بالفرقة المصاحبة له آنذاك، وبعدها أصبح معلما وأخا وصديقا وزميلا وجمعتنا مناسبات مختلفة داخل اليمن وخارجها".
تتجلى أستاذية أبو بكر سالم في دعمه للعناصر الشابة مخلفاً بذلك مدرسة فنية موسيقية وثقافية، ويلخص الفنان الشاب فؤاد عبد الواحد ذلك قائلا: "ما زلت أتذكر نصائحه وكلماته المحفزة لخوض الفن، وتشجيعه الكبير على المسرح أو من خلال غنائي معه الأغنية الأخيرة قبل وفاته وهي "خنجر يماني" التي زادتني ثقة وثقافة فنية، حيث أنني لن أنسى هذا الأمر.. لقد وضعني في مكانة كبيرة بقلبه قبل أي شيء. إنه الأستاذ والمعلم والملهم والتاريخ الذي أتشرف أنني شاركته ولو بالقليل الكثير بالنسبة لي".
خلال مسيرته الفنية حصد العديد من الجوائز والأوسمة كانت أهمها الأسطوانة الذهبية من شركة الإنتاج الألمانية، وجائزة أوسكار الأغنية العربية، ولقب فنان القرن من جامعة الدول العربية، وجائزة أفضل صوت في العالم من اليونسكو، ومن أبرز انجازاته أنه غنى في قاعة البرت هول في لندن أكبر مسارح العالم الفنية عام 1983م، وبهذا حصل على لقب فنان عالمي، كما حصل على العديد من الأوسمة من المملكة العربية السعودية والكويت وعمان والبحرين ولبنان ومجلس التعاون ودكتوراه فخرية من جامعة حضرموت، وكرمه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وسام درجة أولى في الفنون والآداب.
كما تم تكريمه أيضًا من دولة الإمارات العربية المتحدة بمنحه وسام من الدرجة الأولى في الفنون والآداب وأهداه الشيخ زايد بن سلطان سيفا من الذهب.