"أفسد ليونيد بريجنيف حياتي مرّتين"، يقول بافيل كامينيك بحسرة. ففي العام 1968، حاول ألكسندر دوبيك إصلاح النّظام الشّيوعي في تشيكوسلوفاكيا في إطار ما يُعرف اليوم بـ"ربيع براغ". لكنّ بريجنيف، قائد الاتّحاد السّوفياتي آنذاك وأحد مناصري ما سُمّي لاحقاً بالفكر التّدخلي، أمر قوّاته بالتدخّل و"التّصدّي لما اعتبرهم قوات معادية للإشتراكية". في تلك الأثناء، كان كامينيك طالباً في براغ ومن أشدّ المتعاطفين مع أهداف دوبيك. وبعد عقدين من الزّمن، كان كامينيك البالغ آنذاك 41 عاماً في صفوف الحشود الهاتفة في ساحة وينسيلاس في براغ؛ كان يحتفل بنبذ فكر بريجنيف ذاته عقب تحرّر شعوب أوروبا الشّرقية من قيود الشّيوعية التي فرضها عليهم السّوفيات. لكن بعكس أغلبية الذين كان يُحيطون به في السّاحة منذ 30 عاماً هذا الأسبوع، كان لدى كامينيك بعض الشّكوك.
"في العام 1968، كنتُ أؤيد دوبيك. لم نرد الإطاحة بالشّيوعية لأننا كنّا نؤمن بها. كلّ ما أردناه هو إصلاحها وتحريرها. لكنّ ما أردناه فاق قدرة بريجنيف على الاحتمال؛ وهذا ما دفعه إلى إرسال الدّبابات"، على حدّ تعبير كامينيك.
وفي العام 1989 أيّ بعد مرور عشرين عاماً، ظلّ كامينيك على نفس القدر من الرّيبة والتوجّس. فالثّورات اكتسحت أوروبا الشّرقية بعد الإطاحة بالنّظام الشّيوعي وفكر بريجنيف ولّى إلى غير رجعة حسبما أوضحه القائد السّوفياتي وقتها، ميخائيل غورباتشوف، الذي ما كان ليأمر قواته بإختراق الانتفاضات السّياسية الهائلة التي تحدث في أنحاء دول الاتحاد السّوفياتي سابقاً.
"هذه المرّة أطحنا بالشّيوعية من دون معرفة ما سيحلّ بدلاً منها"، يرثي كامينيك، "كنتُ أؤمن بمجتمعٍ إشتراكي. والحقيقة أنني لا أزال أؤمن به حتى اليوم. لكن في العام 1989، كنتُ أراه يتفكّك ويتصدّع وتحلّ محلّه الفوضى العارمة. وبصريح العبارة، لا أعتقد أنّ ما لدينا الآن أفضل ممّا كان لدينا في السابق، أو حتى أفضل ممّا كان يقترحه دوبيك".
وكامينيك ليس الشّخص الوحيد الذي يُفكّر بهذه الطّريقة؛ فالعديد ممّن هم في سنّه، يؤيّدونه الرأي رغم مرور ثلاثين عاماً على تحرير دولتهم من هيمنة الاتّحاد السّوفياتي. أما الأشخاص الأصغر منهم سناً، فيميلون إلى النّظر إلى الأمور من زاوية مختلفة. "نحن دولة عصرية الآن. سمعتُ الكثير من روايات أجدادي عن شبابهم ولا أرغب في أن أعيش عشيتهم"، يقول يوحنا بيكوفا، البالغ من العمر 30 عاماً والمولود في مدينة برنو إبان اندلاع الثّورة.
وبالعودة إلى ثورات العام 1989، فقد كانت بمعظمها سلميّة مع امتداد موجة التغيير إلى مختلف أنحاء أوروبا الشرقية. لكنّ الثورة التي أطاحت بآخر أعمدة الشّيوعية في ما كانت تسمى آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، فقد كانت الأكثر سلميّة بينها جميعاً وهي تُعرف اليوم بـ"الثورة المخمليّة" أو "الثورة النّاعمة".
في غضون ذلك العام، بدت الحماسة وكأنّها في أماكن أخرى سوى تشيكوسلوفاكيا. ففي بولندا، كان ليخ فاونسا ومعه "حركة التّضامن" النّقابية يبذلان ما في وسعهما للتفوّق على حكومة الجنرال فويتشخ ياروزلسكي بدعمٍ من يوحنا بولس الثاني، أوّل بابا بولندي في تاريخ الفاتيكان. وفي ألمانيا الشّرقية، كان إريش هونيكر يُحاول إقفال حدوده في وجه الرّاغبين في الفرار عبر هنغاريا، فيما الرّمز الأعظم لسقوط جدار برلين يشلّ العالم. وفي رومانيا التي شهدت الإنقلاب العنيف الوحيد في أوروبا الشّرقية، سُرعان ما نُفّذ حكم الإعدام بحقّ الرّئيس المتشدّد نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته إيلينا بعد إخضاعهما لمحاكمة سريعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمّا تشيكوسلوفاكيا المنبعثة من تحت رماد الحرب العالميّة الأولى – والدّولة التي وجد رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين ونظيره الفرنسي إدوار دلادييه أنّه من المناسب التّضحية بها والمضي قدماً بـ"اتفاق ميونيخ"، في محاولةٍ فاشلة لتهدئة أدولف هيتلر عام 1938 – فقد وُضعت تحت الرّقابة مع إنتشار الثّورة في أنحاء أوروبا الشرقية. لكنّ المؤرخين يؤكّدون أنّها لطالما كانت أمّة حريصة ومستعدة للدفاع عن نفسها ومعتقداتها، ويشهد على ذلك اعتراضها للغزو السّوفياتي – الذي أسفر عن مقتل 137 شخصاً – عام 1968 ومقاومتها للألمان خلال الحرب العالمية الثّانية: مع إقدام التشيكيين والسّلوفاكيين على قتل مهندس المحارق الجماعية بحقّ اليهود وقائد الفرق الوقائية النّازية راينهارد هيدريش في براغ عام 1942؛ ومحاولة الإنتفاضة السّلوفاكية الوطنية الإطاحة بالنّظام النّازي في الجزء الشّرقي للبلاد عام 1944.
لكن في 17 نوفمبر (تشرين الأول) 1989، تجمّع طلاب بطريقةٍ شرعية في براغ لإحياء ذكرى وفاة يان أوبليتال، الطّالب الذي قُتل على يد النازيين خلال فترة الحرب. ولمّا بدأوا يُطالبون الحكومة بإحقاق إصلاحات ديمقراطية، متأثّرين بالأخبار التي كانت تردهم عن بروز احتجاجات مناهضة للحكومة في بقعٍ أخرى من أوروبا الشّرقية، تدخّلت الشّرطة لوقف تحرّكهم. وعلى الرّغم من عدم إبداء الطّلاب أيّ مقاومة، تلقّوا نصيبهم من الضّرب وانتشرت إشاعات عن مقتل أحدهم. وصحيح أنّ هذه الإشاعات كانت عارية عن الصّحة، لكنّها نجحت في التأثير سريعاً على المناخ في براغ والأمة ككل.
وفي اليوم التّالي، أعلن الطّلاب وعمّال المسارح الإضراب. وفي 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، شرعوا يُطالبون بتحركاتٍ إضافية، هذه المرة من أجل كافة العمال، مستمدّين الجرأة من معاصريهم في دول أوروبا الشّرقية الأخرى ومن نأي الاتحاد السّوفياتي عن التدخّل وتكرار أحداث العام 1968. ومن جديد، إنتشرت شائعات وأخبار مغلوطة عن إقدام الشرطة على قتل متظاهر.
وفي اليوم الذي بعده، أيّ في 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، أرسى الكاتب المسرحيّ والنّاشط السّياسي المنشقّ فاتسلاف هافيل، بمساعدة من مبادرته المحظورة "ميثاق 77" التي لطالما انتقدت الحكومة التشيكوسلوفاكيّة (ما أدّى في مناسباتٍ عدّة إلى اعتقال هافيل وأعضاء آخرين في الحركة)، "المنتدى المدني" لمطالبة الشّرطة بوقف أعمال العنف والحكومة بإجراء إصلاحات تتضمّن استقالة قادتها، ناهيك عن إطلاق سراح السّياسيين المعتقلين على يد الحكومة الشّيوعية. هكذا ومن دون سابق إنذار، دخل الكاتب المسرحي هايفل المعترك القيادي ليُصبح أشهر من نار على علم في ظرف أسبوعٍ واحد. هذا في الشّقّ التشيكي؛ أما في الشقّ السّلوفاكي، فقد كان لحركة "الشّعب في وجه العنف" دوراً مماثلاً للمنتدى المدني.
لكن يظهر أنّ الحكومة لم تأخذ عبرة من التّجارب التي مرّت بها الأنظمة الشّيوعية الشّقيقة في أنحاء أوروبا الشّرقية، حيث تصدّت بصرامة للمحتجّين مع حرص رئيسها لاديسلاف آداميك على عدم تقديم أيّ نوع من التنازلات، باستثناء عدم استخدام العنف. الأرجح أنّ الحكومة والحزب الشّيوعي بإدارة الأمين العام ميلوس جايكس، كانا يعلمان أنّ التغيير آتٍ لكنّهما لا يعلمان ببساطة كيف يتصرّفان أو يُقاومان. وما زاد الطّين بلّة خطاب جايكس للأمّة عبر التّلفزيون الوطني قائلاً إنّ الإشتراكية كانت ولا تزال الخيار الوحيد المطروح وداعياً الميليشيات الإحتياطيّة إلى براغ. لكن أياً كانت الحقيقة، الأكيد أنّ الإنشقاق كان يتّسع يوماً بعد يوم والتّظاهرات تعمّ مدناً أخرى خارج براغ، قل براتيسلافا وبرنو وأوسترافا.
وفجأة، استُبدل جايكس الذي بدا وكأنّه الوحيد في المناصب العليا للحزب الذي يُفكّر بردود شديدة القسوة، بآخر أكثر اعتدالاً يُدعى كاريل أوربانيك، لكنّ بروز هذا الأخير لم يُحدث فارقاً يُذكر. وبحلول هذا الوقت، لم يعد المحتجّون يتّسعون في ساحة وينسيلاس؛ وفي 25 و26 نوفمبر (تشرين الثاني)، احتشد حوالى ثلاثة أرباع مليون شخص في حديقة ليتنا في براغ، مدعومين من الكاردينال فرانتيسيك توماسيك، رأس الكنيسة الكاثوليكية في تشيكوسلوفاكيا.
وبعد حوالى أسبوعين من الاحتجاجات، باشر التّلفزيون الوطني بنشر تقارير خاضعة للرقابة عن حركة المعارضة المتنامية. كما بدأت بعض الصّحف بالاعتراض على التّصريحات الصّادرة عن الحكومة، الأمر الذي غذّى الإضراب العام في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) ووضع حقيقة ما يجري في متناول العديد من النّاس خارج المدن.
وكان الطّالب أوتو أوبكني في ساحة الاحتجاجات في الحديقة، لكنّه كاد ألا يكون. "أأقول لك شيئاً؟" يسأل أوبكني، "كنتُ أعلم وعدد من أصدقائي أنّ تظاهرات متوقّعة ستجري، ومع ذلك قررنا عدم المشاركة بها والخروج ليلاً للسهر؛ ومساء الخامس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، كنّا نجلس في "يو فليكو". و"يو فليكو" تحديداً هي إحدى حانات براغ التقليدية لتصنيع الجعة. في وسطها باحة صغيرة اعتادت استقبال محبّي الجعة في المدينة منذ العام 1499. ففي النهاية وكما تقول الدّعابة، الجعة اللذيذة هي التي حافظت على سلامة عقول الشّعب في تشيكوسلوفاكيا خلال سنوات حكم الحزب الواحد الكئيبة. ويُتابع أوبكني حديثه قائلاً: "ثم أتى أحدهم وقال بأعلى صوته إنّ جدار برلين سقط منذ أسبوع – هل تُصدّق أننا لم نسمع بالخبر؟ - ولا بدّ أن نتوجّه إلى ليتنا".
أما زميلة أوبكني، الطّالبة كارينا نوفاكوفا التي تعمل حالياً كمترجمة لدى الحكومة وتبلغ من العمر 49 عاماً، فقد كانت أكثر نشاطاً. "أعتقد أنني انتظرتُ هذه اللحظة طوال حياتي"، تروي نوفاكوفا، "لكنّها كانت لحظة مُخيفة. كنّا مُجبرين على توخّي الحذر بدلاً من ممارسة النّشاط السياسي، كنّا مُجبرين على الاحتفاظ بآرائنا الشّخصية لأنفسنا حتى في كنف عائلاتنا. لم يكن بوسع أحد التكلّم عن العام 1968 في العلن، كانت أحداث تلك الفترة موضوعاً مباحاً لا يصحّ ذكره. كان جارنا يتعرّض بشكلٍ دائم لمضايقات من قبل جهاز "الأمن القومي التّشيكوسلوفاكي" لإصراره على رفع علم الإمبراطورية النّمساوية المجرية القديم عبر النافذة مرّة في السنة. أعتقد شخصياً أنّه كان رجلاً شجاعاً، لكنّ أمي تُصرّ على أنّه كان مغفلاً. والآن ها أنا ذا أتنقّل عبر الشّوارع المكتظّة تحت أنظار الشرطة، ولا تمرّ أمسية إلا وأشعر فيها أنهم سيُداهمون المنزل لإعتقالي أو إعتقال أبي".
وكان لحركة الإضراب في اليوم التالي تأثيرٌ هائل، إذ يُقدّر أنّ 75% من الطّبقة العاملة إلتزمت بها، ناهيك عن أعضاء الحزب الشّيوعي. "فكرتُ في سرّي، ماذا بحقّ السّماء!"، يُخبرني كاريل هوليك، عامل مصنع ومنظّم نقابة العمال، البالغ من العمر الآن 75 عاماً. "لم يكن لدينا أدنى فكرة عن العالم في الخارج، لكننا كنا نعلم تماماً أنه ينبغي بنا أن نخضع للنظام في الدّاخل: اعملوا بجهد وانضموا إلى الحزب وأدّوا واجباتكم الوطنية حتى تعيشوا. لكن إياكم أن تُفكّروا بأيّ نوع من الفرح أو تحقيق الآمال. لم يكن إنهيار الاقتصاد أمراً مهماً وكلّ ما كان على المرء فعله هو الادّعاء بأنّ كلّ شيء يسير على خير ما يرام كما تدّعي الحكومة. وفجأة لاحت في الأفق بارقة أمل بالتغيير". وفي محاولةٍ منه لتأكيد نوع السّلطة الموجودة في الحركات السّياسية الشّعبية التي هزّت مضجع الأنظمة الإشتراكية في ذلك العام، يُضيف هوليك: "شاركتُ في الإضرابات. ولكنّني لا زلتُ إلى اليوم غير واثق مما إذا كنتُ شجاعاً بما يكفي لأقوم بخطوة لم يتجرأ عليها كثيرون".
أُجبر أداميك على لقاء هافيل الذي كان يُمثّل مطالب المنتدى المدني والتي تضمّنت حذف المقالة التي اعتبرت تشيكوسلوفاكيا دولة شيوعية تخضع لحكم حزبٍ واحد. وفي 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلن الحزب الشّيوعي أنّه سيتخلّى عن السّلطة – واضعاً بذلك حدّاً لـ41 عاماً من الهيمنة. وعلى أثر هذا الإعلان، تتالت الاستقالات الجماعية.
وبالنّسبة إلى الرّئيس غوستاف هوساك، فقد صمد في منصبه لغاية 10 ديسمبر (كانون الأول)، تاريخ تسلّم حكومة جديدة زمام الأمور في البلاد، لينضمّ أخيراً إلى قافلة المتقاعدين المخزية من قيادات الحزب.
وبين الاحتجاجات الطّلابية الأولى وسقوط الحزب الشّيوعي، بالكاد مرّ أسبوعان. وتعليقاً على ذلك، ذكر البروفسور المتخصّص في الدّراسات الأوروبية تيموثي غارتون أنّ: "المرحلة الإنتقالية استغرقت 10 سنوات في بولندا و10 أشهر في ألمانيا الشّرقية و10 أيام في تشيكوسلوفاكيا. وبحلول نهاية ديسمبر (كانون الأول)، أُعلن هافيل رئيساً وسُلّمت رئاسة البرلمان رمزياً لألكسندر دوبيك، القائد الإصلاحي الذي أطلق تقليد المعارضة في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. وفي العام التالي، جرت أوّل إنتخابات حرّة منذ العام 1946.
وعلى الرّغم من التحوّل السّياسي الضّخم، لم يلقَ أحدٌ مصرعه. لقد كانت بالفعل ثورة ناعمة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كانت أمراً محتوماً في خضم الإنتفاضات التي كانت تشهدها مجتمعات أخرى شرقي السّتار الحديدي؟ نعم ربما، ولكنّها حفّزت أشخاصاً شجعان وملتزمين على التحرّك وكان تحرّكهم سلمياً وخالياً من كلّ أشكال العنف، وفي ذلك شهادة معبّرة على القيادة الإنشقاقية، لاسيما قيادة هايفل.
اليوم وبعد مرور ثلاثين عاماً، لم تعد تشيكوسلوفاكيا موجودة. ومن المرجح دائماً أن يكون الإنتقال إلى اقتصاد السّوق بعد عقودٍ طويلة من الأنظمة الاقتصادية الخاضعة لسيطرة الدولة أمراً صعباً، وهذا ما حدا ببافيل كامينيك إلى التّساؤل عمّا إذا كانت الفورة السّريعة للرأسمالية هي التي حسّنت حياة الشعب عموماً. ولا يخفى على أحد أنّ الشّرفة التّابعة لشركة "ميلانتريخ" للنشر حيث كان يُلقي هافيل خطاباته في براغ، تحوّلت اليوم إلى أحد فروع شركة بريطانية قوية ومعروفة بصناعتها لملابس داخليّة حساسة. لكن الأهم من ذلك ربما، فقدان الرئاسة الرقابية المركزية الذي أزكى التوترات بين التشيكيين والسّلوفاكيين، باعتبارهما مجموعتين عرقيتين مختلفتين تتكلّمان لغتنين مختلفتين ومتشابهتين في آن. لطالما شعر السّلوفاكيون في الشرق الفقير بالكراهية والاستياء إزاء التشيكيين الذين كانوا يعتبرونهم أكثر حضارةً وحنكة، وإزاء العاصمة براغ التي كانت تقع في النّصف التشيكي الغربي للبلاد. ومع سقوط الشّيوعية الذي أفضى إلى التضخّم وخسارة الرّعاية الصحية الوطنية، ورفع معدل البطالة في سلوفاكيا تحديداً حيث لم يكن موجوداً من قبل، إزداد السّلوفاكيون امتعاضاً. وفي 1 يناير (كانون الثاني)، إنفصلت الجمهورية التشيكية عن سلوفاكيا ليكونا دولتين مستقلّتين مرّة جديدة.
بالطّبع، لم يكن هذا هو الإرث الوحيد للثورة المخمليّة. ففي الوقت الحاضر، لدى كلّ من سلوفاكيا وجمهورية التشيك حكومة يسارية بقيادة أندري بابيس وبيتر بيليغريني على التّوالي. وهذان الرّجلان ليسا أبناء السّياسة الواضحة التي كان يُنادي بها هايفل الليبرالي. والحقيقة أنّهما يكنّان له الإزدراء أسوةً بالعديد من السّياسيين في صفّهما. والجدير ذكره أنّ كلا الرّجلين عضو في "مجموعة الفيشغراد" إلى جانب المجريّ الشّعبوي الغوغائي فيكتور أوربان والبولندي المحافظ ماتوز موراويكي.
والمعروف عن هذه المجموعة أنها تُعارض الهجرة بشدّة، وترفض رفضاً قاطعاً تأمين الملاذ الآمن للاجئين. وفي عهدها، عانت الأقليات في الجمهورية التشيكية وسلوفاكيا من ظروف حياتية شاقّة، ما دفع بهافيل نفسه إلى التّحذير من خطر ازدياد حالات التعصّب وإنتقاد الذّهنية المتعفّنة التي تميل إليها أمّته في خطابٍ تلاه عام 1997 ويُعرف حالياً بخطاب "المزاج السيء".
كم من الأشخاص الذين تجمهروا في "حديقة ليتنا" توقعوا، أو الأهم من ذلك، رغبوا في الأوضاع السياسية الرّاهنة؟ "في نواحٍ كثيرة، لم نعرف سوف ما لا يُعجبنا؛ لم يكن لدينا أدنى فكرة عمّا ينتظرنا"، تقول كارينا نوفاكوفا. ومن هذا المنطلق، لا يسعنا إلا التشكيك فيما إذا كان لدى محتجّي العام 1989 أدنى تصوّرٌ عن أبعاد أفعالهم. فالعديد منهم كان ديمقراطياً وبعضهم ربما كان يتمتع بتحفيزات مادية، لكن الاحتمال الأكبر أنّهم أرادوا جميعاً عيش حياة غير مربوطة بالدّولة.
إلى ذلك، تُعبّر نوفاكوفا عن موافقتها عموماً على الأبعاد الأخرى الطويلة الأمد للثورة: قبول عضويّة جمهورية التشيك وسلوفاكيا في الاتحاد الأوروبي و – بدرجة أقلّ – انضمامهما إلى الحلف العسكري الغربي لـ"النّاتو" على أثر تخلّي تشيكوسلوفاكيا وسواها من دول أوروبا الشّرقية عن "تحالف وارسو" المتماشي مع سياسة السّوفيات.
وكان هافيل قد لعب دوراً رئيساً في تيسير إنضمام جمهورية التشيك إلى "منظمة حلف شمال الأطلسي" عام 1999 (التي انضمّت إليها سلوفاكيا عام 2004). لكن مع اتجاه عضوية الحلف شرقاً، تارةً بالاتفاق وتارةً أخرى بالتّعارض مع النّزعة العسكرية العدائية والقومية المتزايدة لروسيا تحت حكم فلاديمير بوتين، احتدمت التوترات في المنطقة ومعها شعور بوتين بالحصار. أما المواقف الأخرى التي نادى بها الرئيس هافيل، كالإعتراض على استقلالية سلوفاكيا وإنتقاد الطريقة التي يُعامل بها التّشيكوسلوفاكيون الأقلية الألمانية فيما بينهم بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت مثيرة للجدل. ولمّا توفي هافيل عام 2011، تبيّن أنّ مواقفه على مستويات مختلفة أكسبته شعبيّة أكبر خارج بلاده.
في الوقت الرّاهن، يبدو أنّ السّياسيات الحكومية في البلدين غطّت على إرث هافيل – ومن شبه المؤكّد أنّ هافيل ما كان ليوافق على أجندات القرن الواحد والعشرين الشعبوية. وبحسب ما جاء على لسان وزير الدّفاع السّابق ألكسندر فوندرا لموقع "بوليتيكو": "آنذاك، كنا جميعاً مثاليين... ولو أنّك تبحث اليوم عن مؤشرات دامغة على إرث هافيل الأخلاقي في البلاد، فمهمتك صعبة. هافيل رفع المستوى الأخلاقي للمواطن العادي على أساس أنّ الإنطلاق من مستوى منخفض يُبقي النّتائج عند مستويات منخفضة".
يقول فوندرا كلامه هذا رغم إيمانه الرّاسخ بأنّ التخلّي عن التغيّرات التي أتى بها هافيل ليس بالأمر السّهل. "صحيح أنّني أنتقد بابيس بشدّة، ولكنّه غير قادر على تدمير الدّيمقراطية التي ساهم هافيل في تحقيقها".
ومن وجهة نظر بعض المؤرّخين، خلو الثورة التشيكوسلوفاكية من أعمال عنف لا يجعل منها ثورة بكلّ ما للكلمة من معنى، وحجّتهم أنّ الاحتجاجات الشّرعية للمواطنين العاديين غيّرت الآراء بعيداً من العنف السياسي والذّريعة الهدّامة اللذين أفضيا إلى الثورتين الرّوسية والفرنسية. لكنّ ما قيل ويُقال لا ينفي أبداً نجاح المحتجين التشيكوسلوفاكيين بإرساء تغيّرات سياسية كبرى وإنتزاع السلّطة من الأوتوقراطية الحاكمة.
و"الثورة المخملية" هي التّرجمة الحرفيّة لمصطلح:Sametova Revoluce باللغة التشيكية والذي استُخدم للمرة الأولى من قبل ريتا كليموفا، المترجمة باللغتين التّشيكية والإنكليزية التي أصبحت أخيراً سفيرة تشيكيا إلى الولايات المتحدة. المسألة مسألة معاني ودلالات، حيث تعتمد بشكلٍ أو بآخر على ما إذا كانت تنوي المترجمة تقريب الأحداث في بلادها من تلك التي شهدتها فرنسا عام 1789 أو روسيا عام 1917 – لكن بالنسبة إلى الذين عاشوا في براغ وسواها أواخر 1989، فقد كان الجو ثورياً بإمتياز. "لقد اعتبرناها ثورة منذ البداية. لقد اعتبرناها كذلك لما كنا نقف في الشّوارع في مواجهة شرطة مكافحة الشّغب"، تُوضّح نوفاكوفا.
لكن هل من خيطٍ محتمل آخر يربط الثّورة المخملية بحدثِ سياسي كارثي هذا القرن؟ أتراها هجرة العديد من شباب تشيكوسلوفاكيا سابقاً (وشباب آخرين من أوروبا الشّرقية) طلباً للعمل في دول الاتّحاد الأوروبي الغربية الأكثر ثراءً، هي التي مهّدت ولو جزئياً لتصويت بريطانيا على إستفتاء بريكست عام 2016؟ هذا ممكن رغم أنّ أياً من الذين شاركوا في احتجاجات العام 1989 وأياً من الذين شاهدوها من بريطانيا، لم يتوقّع ذلك.
وممّا لا شك فيه أنّ الفوائد العرضيّة النّاجمة عن أحداث العام 1989 ستستمرّ في التفريق بين محبّي كامينيك ونوفاكوفا. فالإحصائيات التي أجراها "مركز أبحاث الرّأي العام" تشير إلى أنّ 20% تقريباً من التشيكيين لاسيما من الفئات العمرية الأكبر سنًاً، يرغبون في العودة إلى زمن دماثة الشّيوعية. ومن بين الذين عاشوا قبل العام 1989، 40% يعتقدون أنّهم كانوا أفضل حالاً قبل إندلاع الثّورة المخمليّة. ولهذا، ما زالت الأحزاب الشيوعية في جمهورية التشيك تحصد حتى اليوم عدداً من الأصوات يوم الإنتخابات. يظهر أنّ الرّغبة في التغيير التي تملّكت النّاس عام 1989 كانت أقرب إلى كونها صيحةً من أجل الإستقلالية منها إلى نداء من أجل المطالبة باقتصاد السوق الحر. وكامينك يوافق هؤلاء الرأي. "في العام 1989، لم يكن الناس يُطالبون بثروات ماديّة أو حتى ديمقراطية غربية. كلّ ما كانوا يُطالبون به هو أن يكون لهم رأي في طريقة إدارة بلدهم. وهذا ينطبق أيضاً على العام 1968"، حسب قوله.
وعلى خلفية إنقسام سلوفاكيا وجمهورية التشيك الذي عُرف في ما بعد بـ"الطلاق المخملي"، شعر كامينيك بالخيبة للمرة الثالثة. "أعتقد أنها كانت غلطة كبيرة"، يقول كامينيك الذي يعتبر نفسه سلوفاكياً كدوبيك رغم أنه عاش معظم حياته في براغ. "لكنّ معظم السّلوفاكيين رأوا مستقبلهم في دولة منفصلة ومستقلّة. أنا عن نفسي إشتراكي ودولي ومن أشدّ المؤمنين أنّ في الاتحاد قوّة. لكنني أبلغ من العمر 71 عاماً، فما أدراني؟ أعتقد ألا مجال في إرضاء رجلٍ عجوز كثير التذمّر"، يختم كامينيك راسماً إبتسامة حزينة نوعاً ما على وجهه.
يُعتبر يوم إندلاع الثّورة المخمليّة عيداً رسمياً في الجمهورية التّشيكية. فهل كامينيك من المشاركين في هذه المناسبة؟ سؤال حرج تُجيب عنه ربما النّظرة التي ارتسمت على وجه كامينيك إبان سماعه.
© The Independent