بعد أكثر من شهرين على بدء موجة الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العراق، تشهد بغداد مشهدين متناقضين: أولهما جميل لمحتجين سلميين وزعوا المهام والمناوبات في ما بينهم للحفاظ على أمن ساحة التحرير ونظافتها، وثانيهما عنيف ينقل الاعتداءات على المتظاهرين، بدءاً بقنابل الغاز المسيل للدموع مروراً بمواجهتهم بالرصاص الحي حتى اختطافهم وقتلهم.
حتى الآن، قُتل خلال الاحتجاجات حوالى 450 شخصاً وأصيب ما لا يقل عن 25 ألفاً بجروح، بعضهم سقطوا على أيدي القوات الأمنية وآخرون على أيدي مسلّحين "مجهولين" عجزت السلطات عن تحديد هوياتهم، بعدما هاجموا ساحات الاعتصام في محاولات يائسة لترهيب المتظاهرين المتمسّكين بإسقاط النظام وجميع السياسيين.
متظاهرون يقتلون شاباً وسط بغداد
وشهدت بغداد، الخميس 12 ديسمبر (كانون الأول)، مقتل شاب على أيدي متظاهرين غاضبين هاجموه وقتلوه ثم مثلوا بجثته وعلقوه على عمود إشارة مرورية وسط العاصمة، في وقت تضاربت المعلومات حول الأسباب وراء الحادثة.
مصادر في الشرطة تقول إن شجاراً اندلع بين شاب يبلغ من العمر 17 سنة وعدد من المتظاهرين قرب ساحة الوثبة القريبة من ساحة التحرير، وقام هؤلاء بإضرام النار في منزله المجاور للمكان. وبينما يتّهم بعض المتظاهرين الشرطة بعدم حمايتهم من "المندسين"، بدا عناصر الأمن عاجزين عن التدخّل لإيقاف الشجار. وأظهرت لقطات بثّت مباشرةً على شبكات التواصل الاجتماعي أفراد قوات الأمن يغادرون المكان بعدما اقتحمت مجاميع كبيرة المنزل وسحلت الشاب على الأرض لعشرات الأمتار. وأظهرت لقطات فيديو كذلك عدداً كبيراً من المحتجين وهم يركلون الشاب ويطعنونه، ليعودوا ويربطوه من قدميه ويعلّقوا جثّته مقلوبةً على إشارة مرورية وسط ساحة الوثبة.
في المقابل، سرت رواية تقول إن الشاب أطلق النار على المتظاهرين من سطح أحد المنازل وقتل عدداً منهم، ما أثار غضب المحتجين الذين هاجموا المنزل وعذبوا الشاب وقتلوه قبل أن يعلقوه على عمود الإشارة المرورية. وأفاد شهود لوكالة الصحافة الفرنسية بأن الجثة نُقلت بعد ذلك إلى الطب العدلي.
تنديد بالحادثة... المتظاهرون السلميون براء
وعلى إثر الحادثة، ندّد بيان صدر عن المعتصمين في ساحة التحرير بالحادثة، جاء فيه "نعلن براءتنا نحن، المتظاهرين السلميين، ممّا حدث صباح اليوم في ساحة الوثبة"، معتبرين ما جرى "مخطّطاً خبيثاً لتشويه صورة المتظاهرين السلميين".
وأثارت صور وفيديوات الحادثة جدلاً في العراق، إذ هدّد أحد المقربين من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بسحب أصحاب القبعات الزرق الذين يحمون المتظاهرين في ساحة التحرير "إذا لم يتم تقديم الفاعلين الإرهابيين خلال 48 ساعة"؟
كما ندّد زعيم حركة "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، الذي استهدفته أخيراً عقوبات أميركية، بـ "الفوضى" التي حذّر منها منذ بدء الاحتجاجات، والتي يرى فيها "مؤامرة" ضد العراق. وتساءل في تغريدة على تويتر "إلى متى ستستمرّ الفوضى، وغياب القانون، وضعف قوات الأمن، وانتشار الأسلحة والميليشيات المثيرة للاشمئزاز"؟
وفي سياق منفصل، قال الجيش العراقي، في بيان الخميس، إن انتحارياً فجّر نفسه قرب مدينة سامراء شمالي بغداد موقعاً سبعة قتلى على الأقل من أفراد الحشد الشعبي. وأضاف البيان أن الهجوم أسفر أيضاً عن إصابة ثلاثة آخرين، ولم تُعلن أي جهة بعد مسؤوليتها عن الهجوم.
تزايد خطف وقتل الناشطين
ومن ضمن وسائل ترهيب وقمع المحتجين، شهد العراق تزايداً في حالات خطف وقتل ناشطين، فقد عُثر الأربعاء على جثة الناشط البارز علي اللامي (49 سنة) مصابةً بثلاث رصاصات في الرأس أطلقت عليه من الخلف أثناء توجهه إلى منزل شقيقته، بحسب ما أفادت الشرطة. واللامي، أب لخمسة أولاد، هو ثالث ناشط يعثر على جثّته خلال عشرة أيام، الأمر الذي دفع بعثة الأمم المتحدة إلى توجيه إصبع الاتهام، الأربعاء، إلى "كيانات مسلحة".
وبينما يزداد نفوذ "قوات الحشد الشعبي" الموالية لإيران، والتي يتّهمها محتجون بالوقوف وراء حملات ترهيب المتظاهرين والنشطاء، تؤكّد السلطات عجزها عن تحديد هوية المسؤولين عن عشرات حالات الخطف، وعن المذبحة التي شهدتها ساحة الخلاني وجسر السنك الجمعة السادس من ديسمبر، بعدما هاجم مسلحون المعتصمين موقعين عدداً من القتلى في صفوفهم. وعلى إثر الهجوم، أمر قائد "الحشد الشعبي" مقاتليه بعدم الاقتراب من المتظاهرين، الأمر الذي اعتبره المحتجون بمثابة إقرار بالذنب.
وكان اللامي غادر قبل أيام مدينة الكوت الجنوبية حيث يقيم للتظاهر مع أولاده في بغداد، وكان دعا مراراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي المحتجين إلى التظاهر السلمي. وقال صديقه المقرّب تيسير العتابي "قتلته ميليشيات الحكومة الفاسدة".
الأمم المتحدة تحذّر
وعُثر الأسبوع الماضي على جثة الناشطة زهراء علي، البالغة من العمر 19 سنة، بعدما قُتلت بطريقة بشعة بعد خطفها، وألقيت جثتها أمام منزل عائلتها. والاثنين، كذلك اغتيل الناشط المدني البارز فاهم الطائي (53 سنة) برصاص مجهولين في مدينة كربلاء، أثناء عودته من التظاهرات إلى منزله، حين أصيب في إطلاق النار ناشط كان برفقته. كما نُقل متظاهر رابع إلى المستشفى بعدما اندلعت النيران في سيارته، وقال أقاربه إن الحريق نجم على ما يبدو عن شحنة ناسفة ألصقت بسيارته.
ومنذ مطلع أكتوبر (تشرين الأول)، عُثر على نشطاء جثثاً في عدد من المدن العراقية، واحتُجز عشرات المتظاهرين والنشطاء لفترات متفاوتة على أيدي مسلّحين قيل إنهم كانوا يرتدون الزي العسكري، إلا أن السلطات لم تتمكّن من تحديد هوياتهم.
ودعت بعثة الأمم المتحدة في العراق السلطات إلى وقف استهداف المتظاهرين وملاحقة المتورطين بذلك. وحمّلت البعثة في تقرير "ميليشيات" و"جهة مجهولة ثالثة" و"كيانات مسلحة" و"خارجين عن القانون" و"مفسدين" مسؤولية "القتل المتعمّد والخطف والاحتجاز التعسفي". وحذّر التقرير الأممي من أن هذه "الأعمال تساهم في إشاعة جو من الغضب والخوف، وعلى الحكومة تحديد تلك الجماعات المسؤولة من دون تأخير، ومحاسبة مرتكبيها (الجرائم)".
خلية نحل لأمن ونظافة ساحة التحرير
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المقابل، وعلى الرغم من القمع والعنف الذي تشهده البلاد، يبرز في ساحة التحرير مشهد تحوّل المحتجين إلى خلية نحل لا تهدأ، من حراس وعمال نظافة ومستشفيات، يوزّعون المهام وجداول المناوبات، مقدّمين نموذجاً ناجحاً لما عجزت الدولة عن القيام به خلال 16 عاماً، بحسب قولهم.
وفي بغداد، نصب العامل المياوم حيدر شاكر، القادم من محافظة بابل إلى ساحة التحرير، خيمته حيث وضع أدوات الطبخ، ليوزّع على المتظاهرين ثلاث وجبات يومياً طُهيت بمواد يُرسلها إليه متبرعون. وكل صباح، وبعد تعداد أكياس الأرز والسكر والدقيق والتوابل الأخرى، تُوزّع المهام على الخيم: طبق رئيسي، وحلويات، وشاي وقهوة، وسندويشات. فلا يتوقف العمل ليلاً ونهاراً.
وعند مدخل الساحة، يقف أبو الحسن حارساً مع عشرات آخرين من رجال ونساء، مهمتهم تفتيش الداخلين عند حواجز أقاموها بالحجارة. ويؤكد الثلاثيني الذي لا يعرف غير الحرب في بلاده "نحن العراقيين، منذ صغرنا، نحتك بالعسكر، لذا اكتسبنا كيفية التعامل معهم". ويضيف "لا نحتاج إلى تدريب لاكتشاف المندسين وردعهم، حتى لا يشوّهوا سمعة المجتمع بأسره، وكي نكون قادرين على تقوية دولتنا".
حواجز لضبط المندسين
وبعد "مذبحة السنك" التي خلفت 24 قتيلاً، عزّز المحتجون نقاط التفتيش في محيط ساحة التحرير وأغلقوا مبنى "المطعم التركي" المطلّ على الساحة. ويؤكّد المتظاهرون أنهم مع اللاعنف، وأن رجال شرطة واستخبارات اخترقوا صفوفهم، وأنهم وقعوا تحت رحمة مسلحين قادرين على عبور حواجز الشرطة والجيش في بغداد من دون عوائق قبل حادثة الجمعة.
وفي مواجهة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، يتحالف المحتجون من جهتهم مع أصحاب "القبعات الزرق" التابعة لـ "سرايا السلام"، الجناح العسكري لتيار مقتدى الصدر، الذي أعلن سابقاً إرسال أصحاب "القبعات الزرق" العزّل لحماية المتظاهرين.
لوجستيات وطبابة ونظافة
ولتأمين الكهرباء والإضاءة، يعتمد المتظاهرون على وصلات كهربائية مدّوها على خطوط التوتر العالي التابعة للبلدية، إلى جانب مولدات كهربائية صغيرة اشتروها. كما في الساحة أطباء وممرضون ومسعفون يهتمون بمعالجة الجرحى، ويجمعون الأودية والأمصال والضمادات.
وأمام المستشفيات الميدانية، وبين عجلات الـ "توك توك" التي تمر بسرعة بين مجموعات المتظاهرين، يقوم عشرات الشبان، وغالبيتهم من الفتيات، بكنس وتنظيف الشارع يومياً. ويرى المتظاهرون أن الساحة لم تكن أبداً نظيفة بهذا الشكل، مقارنةً بما كان يقوم به عمال البلدية.
وتقول هدى عامر، المعلمة التي تتغيّب منذ أسابيع عن وظيفتها لتنظيف شوارع وأرصفة ساحة التحرير، "سلاحي هو مكنستي". وتضيف بابتسامة تعلو وجهها "ثورتنا لا تريد تدمير كل شيء. هنا، نحن جميعاً لبناء أمتنا".