يتساوى فوز بوريس جونسون الملفت على حزب العمّال مع فوز الشعبوية على منهج السياسات. لقد أمّن التفويض والدعم الذي أراده لشعاره الفجّ والمضلّل -"الإنتهاء من تنفيذ بريكست" عبر الخروج من الإتحاد الأوروبي يوم 31 يناير (كانون الثاني).
إقتدت حملة السيد جونسون الرئاسية بدونالد ترمب، وهو الرجل الذي استمات لتحييده عن الإنتخابات. فقد حصل على انتخابات بريكست التي أرادها وأقنع عدداً كافٍ من أفراد الطبقة العاملة بنوع الإقتصاد الشعبوي الذي يروّج له. وتردّدت في الجزء الثاني من شعار السيد جونسون "فلنطلق العنان للإمكانات البريطانية"، أصداء شعار "فلنجعل أميركا عظيمة مجدداً".
فاز الرئيس الأميركي بتأييد الطبقة العاملة في العام 2016 بعد أن بثّ الأمل داخل مناطق حزام الصدأ التي لم تلحق بركب العولمة. وحصد السيد جونسون نتيجة مشابهة عبر هدم "حائط (حزب العمّال) الأحمر" الذي تألف من سلسة من المقاعد الممتدة من شمال ويلز إلى الشمال الشرقي، عبر فوزه بأغلبية ساحقة متوقعة للمحافظين وصلت إلى 80 مقعد، وهي أكبر أغلبية منذ حقبة مارغريت تاتشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سوف يظنّ السيد جونسون أن أعماله مبررة وأنّ الغاية تبرر الوسيلة. لكن هذه الإنتخابات هي الأقذر والأكثر نفاقاً بين 10 انتخابات عامة غطيتها منذ انتقلت إلى قرية "وستمنستر" (أي منطقة البرلمان البريطاني) في العام 1982، غطيت آخر ستة منها لصالح الاندبندنت.
قامت حملة المحافظين على أساس خاطئ ووعد كاذب. زعم السيد جونسون أنّه لا يرغب بحصول هذه المنافسة. غير صحيح: منذ أول يوم انتقل فيه إلى مقر رئاسة الوزراء في شارع داونينج في شهر يوليو (تمّوز) تحدّث أقرب مساعديه عن "الإنتخابات"؛ والجدل الوحيد كان حول موعد انعقادها. وقرّر أنّ حدوث المنافسة قبل تنفيذ بريكست يعزّز فرصه في الفوز. ثمّ بنى روايته الخادعة: أنّ البرلمان أوقف تنفيذ بريكست، وأعاق بالتالي إرادة الشعب التي عبّر عنها في العام 2016. كأن الرواية صورة مطابقة عن رواية ترمب: الشعب ضدّ مؤسسة الحكم، وهي استراتيجية مستغربة لخرّيج كليّة إيتون والعضو السابق في نادي بولينجدون السيء السمعة للرجال في جامعة أكسفورد.
يعمل الشعبويون، من اليسار كما اليمين، على وضع مسافة مع من سبقوهم في الحكم كي يستغلوا مظالم المواطنين. وأعلن جونسون في هذا السياق قيام "حكومته الجديدة"، مع أنّ حزبه يتولّى الحكم منذ تسع سنوات. كما زعم أنه عارض تطبيق سياسة التقشّف في العام 2010 وهو أمرٌ لا يذكره وزراء الحكومة آنذاك.
وُضعت الحقائق غير المناسبة جانباً. فنواب البرلمان لم يوقفوا صفقة بريكست التي أتى بها السيد جونسون كما زعم: بل وافقوا على مشروع القانون مبدئياً ومرروه ب30 صوتاً. لكن مجلس العموم عبّر عن رفضه المحقّ لضيق الوقت السخيف الذي أمهله إياه من أجل التدقيق بالقانون. ولم يكن من الصعب التوصل إلى حل وسط بهذا الشأن. إنما السيد جونسون لم يكن معنياً بهذا الموضوع واستغل الفرصة من أجل اقتراح عقد انتخابات غير ضرورية والعثور على شركاء يدعمون هذا المقترح في صفوف حزب الديمقراطيين الأحرار والحزب الإسكتلندي القومي اللذان اعتبرا المنافسة تصبّ أيضاً في مصلحتهما. وتبيّن أنّ الحزب الاسكتلندي القومي على حق والديمقراطيين الأحرار على خطأ.
أعطى نظامنا الإنتخابي البالي أفضلية كبيرة للسيد جونسون. فقد أدرك أنّ عدداً أكبر من الناس يمكن أن يصوّتوا للأحزاب الملتزمة باستفتاء القول الفصل وليس للمحافظين. لكن صوت مناصري البقاء في الإتحاد الأوروبي سينقسم بين العمال والديمقراطيين الأحرار- وتبيّنت صحّة هذا القول. لذا يمكن للسيد جونسون أن يفوز بنحو 40 في المئة من الأصوات وهو حدّ أدنى بكثير من الحدّ المطلوب في أي الإستفتاء الذي يستحقه الناس نظراً للحقائق الجديدة التي ظهرت عن بريكست منذ العام 2016.
وكشفت انتخابات "نحن وهم" عن الوجه الشعبوي الفجّ نفسه الذي ساعد حملة الإنفصال عن الإتحاد الأوروبي على الفوز باستفتاء العام 2016. عدة أفراد من الفريق الذي قدّم لنا شعار "فلنستعِد السيطرة" قدّموا لنا الآن شعار "فلننهِ تنفيذ بريكست" وهم بالمناسبة موظفون لدى جونسون. هذا الشعار هو الأكثر تضليلاً الذي مرّ عليّ خلال 37 عاماّ من الكتابة في الشأن السياسي. وأعطى الناخبين الذين ملّوا طبعاً من موضوع بريكست انطباعاً بأنهم لن يسمعوا كلمة بريكست أبداً ما بعد 31 يناير.
إنّما الشيء الوحيد الذي "سينتهي" حينها هو الطلاق من الإتحاد الأوروبي. فالإتفاق التجاري بين المملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي لن ينتهي بحلول هذا التاريخ، كما أننا لم نسمع عنه الكثير خلال هذه الإنتخابات. وفي سبيل إقناع نايجل فاراج بسحب نصف مرشّحي حزب بريكست، قطع السيد جونسون وعداً متهوّراً بعدم تمديد الفترة الإنتقالية ما بعد ديسمبر 2020 لذا تلوح في الأفق حافة هاوية جديدة. ويشكّ المسؤولون في وايتهول وفي بروكسل بإمكانية التوصّل إلى اتفاق بحلول هذا التاريخ، فالمفاوضات يمكن أن تدوم ثلاث سنوات.
خلال الإنتخابات السابقة، كتبت آلاف الكلمات حول تهجّم المحافظين على زيادة الضرائب التي ينوي العمّال فرضها وحول زعم العمّال أنّ المحافظين يسعون لخصخصة هيئة الخدمات الصحية الوطنية. لكن هذه الإنتخابات بلغت مستوى جديد من الإنحطاط. وكانت أول انتخابات من عصر ما بعد الحقيقة. وما أخشاه هو أن هذا الوضع سيصبح طبيعياً ولن يقتصر على مرة واحدة فقط.
كان من المحتّم استيراد الإعلانات الإلكترونية الهجومية غير المضبوطة من أميركا؛ فالمملكة المتحدة تقلّد تقنيات الحملات الإنتخابية الأميركية عادة بعد عدة سنوات من تنفيذها. وهكذا عدّلت إعلانات المحافظين على فيسبوك ويوتيوب وجوجل كلمات منافسيهم مثل السير كير ستارمر وتعليقات صحافيي البي بي سي. وانتشرت على تويتر أكاذيب من "مصادر محافظة" مجهولة، ادّعت زوراً أنّ ناشطاً من حزب العمال لكَمَ مستشار مات هانكوك على أبواب مستوصف ليدز العام. وحتى لو لم يقم المحافظين شخصياً بذلك، نشر مناصروهم فكرة "الأخبار الكاذبة" لزرع الشكّ في أية قصة تضرّ بهم- مثل زعمهم الخاطئ أنّ صورة الصبي البالغ من العمر 4 أعوام وهو يستلقي على أرض المستشفى في ليدز متعمّدة.
إعتقد فريق كورين أنّه يستطيع استخدام وسائل التواصل الإجتماعي لتخطّي الوسائل الإعلامية التقليدية التي يكرهها. لكن بعد مستويات بلوغ ماكينة المحافظين الإنتخابية مستويات أدنى بكثير، يعترف بعض حلفاء كوربين الآن أنه بات من الضروري إعادة النظر برأيهم: فمن الضروري اللجوء إلى الصحافة التقليدية من أجل كشف انتهاكات الوسائل الإعلامية الجديدة غير الخاضعة للرقابة.
لم يهتم فريق بوريس كثيراً بالعادات والتقاليد: وقرر خوض الإنتخابات وفقاً لشروطه وليس شروط الإعلام. فتفادى التعرّض للتدقيق وفكّر أنّ التهرّب من مقابلة مع آندرو نيل أفضل من التعرض لهجوم على يده. كما تعرّضت الوسائل الإعلامية التي لم تمتثل للأوامر إمّا إلى التهديد مثلما حدث مع القناة الرابعة مع مراجعة رخصتها، أو للطرد من باص الحملة الإنتخابية لبوريس جونسون، مثلما حدث مع صحيفة الدايلي ميرور. وفي المقابل جرت مقاطعة بعض الصحافيين شخصياً، مثلما حدث مع كاي بورلي من قناة سكاي. هذه كلّها إرشادات من كتيّب ترمب.
يصرّ حلفاء جونسون أنّه ليس "ترمب البريطاني" كما قال عنه الرئيس مرة. ويشيرون إلى الإختلاف الكبير بين موقفي الزعيمين في مواضيع مثل تغيّر المناخ والتجارة الدولية. ويصرّون أنّه المحافظ الليبرالي نفسه الذي انتُخب عمدة لندن مرتين.
ووصف السيد جونسون برنامجه عدة مرات على أنّه "نهج محافظ منطقي ومعتدل هدفه الأمّة الواحدة". لكن برنامجه الانتخابي تجنّب المخاطر تعمّد وضع قلّيل من الإشارات حول السياسة الداخلية. وأقر احد المستشارين أنّ "هدف البيان إيصالنا إلى 13 ديسمبر".
بفضل الأغلبية الساحقة التي باتت بيده، يمكن لرئيس الوزراء أن يتصرف في السياسة كما يحلو له. لكنه يظّل لغزاً حتى بالنسبة للمّطلعين على حزب المحافظين. ويعتقد راين شورتهاوس، كبير المدراء التنفيذيين في مركز الأبحاث المحافظ الليبرالي برايت بلو أنّ السيد جونسون لن ينحاز إلى الليبراليين اليمينيين ولا الفريق الوسطي المنافس لهم اللذان يحاولان جذبه في اتجاهات مختلفة.
وقال للاندبندنت "لا أعتقد أنّ حكومة بوريس ستتمتع بثبات فكري، بل ستسعى إلى الفوز والحفاظ على دعم الطبقة العاملة. وعليه أن يكون متقدمّاً من الناحية المالية والإجتماعية للحفاظ على دعمهم له. ستجبره السياسة على هذا. لكنني لست أكيداً أنّه شخص يتمتع بمبادىء راسخة تتوافق ونهج المحافظة الليبرالي".
"هو انتهازيّ. سيتّجه إلى أي موقع يرجّح أن يحرز فيه فوزاً سياسياً. في داخله، ربما يكون شخصاً يزعجه كسب النفوذ".
© The Independent