يصف العراقيون إصلاح سياراتهم بأنها إما على البارد أو الحار. فالمحظوظ من يقول له "التنكجي" إن إصلاحها سيتم على البارد، أي أنها تتطلب جهداً عضلياً من المصلحين بالدق الناعم على الأجزاء المعطوبة لتتعدل من دون صبغ، في حين قد لايسر الزبون أن يسمع أنها ستحتاج الإصلاح الحار، أي أنها تستدعي الإذابة بالنار كي تتعدل ثم تصبغ وهو ما سيؤدي إلى انخفاض سعرها عند البيع.
هذا التعبير المقترن بإصلاح السيارات انتقل من شارع "التنكچية" إلى شارع السياسة في العراق.
لكن الشارع السياسي العراقي المليء بالتكنجية يشهد اليوم تصليحات على النمط الحار نتيجة الغليان الشعبي الذي تعدى الشهرين، وضرب مفاصل الدولة في أماكنها الحساسة. شهران من المطالب المحرجة لسلطة قبلت لنفسها بأن تتحول إلى حديقة خلفية لأيران وسياستها في منطقة نفطية شديدة الحساسية للمجتمع الدولي، وذلك على غير المتوقع من بلد خاض حربا ضروساً مع جارته لثماني سنوات.
غير أن السياسيين المواليين لطهران يصرون على التعامل معها كحائط الصد الذي يسندهم ويضمن لهم مهربا من غضب الشارع الرافض لهذه التبعية غير المسوغة التي أخرت بلادهم كثيراً وتسببت في تراجعها أكثر، وشرعنت الفساد الذي لم يقبله الشعب مطلقاً، فعيل صبره حتى خرج للشوارع.
خرج على رموزه بتظاهرات واحتجاجات منذ الأول من أكتوبر الماضي ومازال. ووصل الحال إلى نزول فصائل وألوية الميليشيات لتفريق تلك الاحتجاجات ومنعها بالقوة، بالمدرعات حيناً والأسلحة المتوسطة أحيانا، بحصيلة من الاعتداءات المتكررة لمن سمتهم الحكومة "طرفا ثالثا" كي تُخلي ساحتها، كما في خطابات رئيس الحكومة المتكررة. وهم على مرأى ومسمع من أعينها من خلال كاميرات المراقبة المبثوثة حول ساحات الاعتصام، يتكرر القتل العلني والسري للناشطين ويختطفون من الشوارع و تداهم بيوتهم الآمنة.
الباب المسدود؟
اِستقالة الحكومة العراقية لم تكن خبرا سارا للجنرال قاسم سليماني، الذي سعى لابقائها وعمل كل ما بوسعه على ذلك عبثاً فعاد إلى بغداد ليشرف على ترتيب أوراق ميليشياته المبثوثة في العراق. لكن أحداث الناصرية عجّلت بإسقاطها واضطرتها إلى إعلان الاستقالة، ووضع البلاد في ظل حكومة انتقالية تنتهي مهامها نهاية هذا الأسبوع.
ستتحول هذه الحكومة المستقيلة إلى ملف طويل أمام القضاء العراقي إن أجلاً او عاجلاً نتيجة حصيلة القتلى وآلاف الجرحى الذين سقطوا على يدها. وهي غير قادرة على تشخيص واعتقال من سمتهم مخادعة طرفا ثالثا الذي تعرفه جيدا بأنه فصائل وألوية ميليشيات تتلقى رواتبها من ميزانية الدولة وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة؛ فصائل عزمت على خنق بغداد، والمدن الرئيسية التي خاضت أشبه مايكون بأوسع انتفاضة في التاريخ العراقي، على تلك الحكومة في البصرة والناصرية والسماوية والديوانية والنجف وكربلاء وبابل، إضافة إلى العاصمة التي شهدت ذروة التحدي الشعبي.
وعقب استقالة الحكومة ونفاد وقتها، ووفقا للدستور العراقي، على رئيس الجمهورية، برهم صالح، أن يرشح رئيسا جديداً للحكومة من الكتلة الأكبر الفائزة في إنتخابات العام 2018 وهي كتلة "سائرون" -بزعامة مقتدى الصدر- خلال خمسة عشر يوماً تنتهي يوم الخميس. لكن هذه الكتلة أمتنعت عن ترشيح أحدٍ من نوابها، ما أتاح فرصة لائتلاف "دولة القانون والفتح" لأعلان مرشح أخر صوت عليه البرلمان وفق الصيغ الدستورية.
الواقع العملي يؤكد أن رئيس الحكومة الجديد -أيا كان- في وضع لايحسد عليه بسبب جملة من التحديات. فهو أمام رفض المحتجين الذي أبوا أن يرشحوا أحداً من بين الحراك الشعبي المستمر بانتفاضته حتى الساعة، والمطالِب بكشف الضالعين في تقتيل مناصريه من الشباب والناشطين المدنيين. وبامتناع الحراك عن المشاركة في لعبة سلطوية تسعى -في اعتقاده- في "استدامة منظومة الفساد وإعادة انتاجها"، يصرح أنصاره بأن كل مشاركة في حكومة من نتاج طبقة سياسية ملطخة أيديها بدماء مئات القتلى وألاف الجرحى خيانة لاتغتفر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أين المفر؟
وقد أكد أحد منظمي الاحتجاجات في حديث هاتفي أن لديهم بدائل لتغيير الواقع السياسي الحالي. تتمثل هذه البدائل في حكومة موقتة تعد انتخابات مقبلة ومفوضية جديدة تشرف على هذه الانتخابات، وهيئة قضائية مجربة ونزيهة. لكنه يستدرك قائلا: "الظروف غير مؤاتية لتقديمها في ظل سيطرة الميليشيات على الوضع الأمني الحالي، واستمرار الحكم بذات الطريقة القمعية التي أستخدمها السيد عادل عبد المهدي بصفته القائد العام للقوات المسلحة لضرب التظاهرات بعنف مفرط، ما أعطى مسوغات لرفع سقف مطالبها، برفض الوجود الإيراني في العراق والمطالبة بتنقية العراق من ذلك الوجود الضاغط."
غياب الترشيحات الذي سببه عزوف المحتجين عن المشاركة في تسمية واحد منهم (وهو ما طالبت به جهات عديدة في الرئاسات العراقية الثلاث: البرلمان والحكومة والجمهورية) جعل الباب مفتوحاً لمرشح حزب الدعوة، المستقيل ساعة الترشح، محمد شياع السوداني، وهو من عراقيي الداخل أي لم يأت من إيران أو من معارضة الخارج واستوزر في ثلاث حقائب في وزارات المالكي والعبادي، آخرها وزير العمل والشؤون الاجتماعية، وزير حقوق الإنسان، عن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي.
وعلى الرغم من كون الرجل يشهد له القاصي والداني بالنزاهة والاستقامة وخلو سجله من ملفات فساد فقد رفض المتظاهرون ترشيحه كونه من الطبقة السياسية التي عانى منها الشعب وقادت البلاد إلى الهاوية. ويرى الكثيرون أن المرحلة المقبلة تحتاج شخصية حازمة لا تتوانى عن اتخاذ قرارات صارمة لضرب الفاسدين وجلهم من حزبه الذي حكم البلاد اثني عشرة سنة، كان فيها السوداني ذو الأصول الجنوبية وزيرا يحظى بثقة رؤسائه في حزب الدعوة والدولة.
الطبقة السياسية أشاعت أثناء ترشيحه أنه الشخص المناسب لتهدئة الشارع لعدم إثارة ملفات فساد حوله. فهو -وفق المراقبين- "أحسن السيئين" في الحكومات التي قادها حزب الدعوة والائتلاف الشيعي على مدى ستة عشر عاماً.
عقبات
ويظل التحدي الخطير في الوضع العراقي الراهن يتمثل في بوادر الانفلات الأمني في العراق عموما سيما في العاصمة، نتيجة ردود الفعل التي ينتجها عنف السلطة إزاء الناشطين المدنيين وردود الفعل الانتقامية المقابلة، وعدم وجود طرف ضامن كالجيش المعزول في ثكناته والمجرد من أسلحته والمحجم من قوى أخرى لها سلطة القرار في الشارع التي لم تلتزم بتعليمات وتوجيهات أي مرجعية حكومية، وأطلقت طرفها الثالث لقتل الناشطين وتصويرهم على مرأى الجميع، والشواهد كثيرة حيث ازدادت عمليات خطف وملاحقة العديد من المحتجين، وأشاعت جوا وعبئاً كبيراً على الحكومة المقبلة التي من أولى مهامها السيطرة على السلاح المنفلت وحصره بيد الدولة والإسراع في تشكيل حكومة مؤقتة تأخذ على عاتقها مهمة حماية الأمن وتحفظ أرواح الناس وممتلكات الدولة والممتلكات الخاصة وتفرض النظام بالحزم والقوة.
ستكون مهمة الحكومة المقبلة أصعب بكثير من الحكومات السابقة. فهي تحارب باتجاهات عديدة في مقدمها أن يكون رئيسها حازما ذكياً في إتخاذ القرارات السليمة دون تردد، وأن يضع مطالب الشعب نصب عينيه وأن ينسلخ عن الطبقة الفاسدة التي حكمت البلاد وشرعنت وجوده، ونهبت المال العام في سابقة لم تشهدها البلاد في كل تاريخها، وبددت ثروات طائلة، وأطلقت الميليشيات على الشعب، وحجمت جيشه الوطني من خلال ظاهرة ما يسمى "دمجا" بمنح رتب لأشخاص مدنيين كانوا في المعارضة أيام الحرب العراقية -الإيرانية، فظهر مئات الذين يحملون رتب عليا كالفريق واللواء والعميد، في ظاهرة لم يألفها الجيش العراقي منذ تأسيسه عام 1921، ما سبب تعويم الجيش وهيمنة الميليشيات عليه وإضعافه.
فالمهمة الآنية لرئيس الحكومة المقبلة أن يوقف نزيف الدم، ويشرع في بناء مؤسسات الدولة بحزم، وأن يخطو خطوات ستكون مخالفة للثقافة السائدة في السلطة الحالية بتعويم الأطر المعمول بها من خلال إشاعة ظاهرة التسيب غير المسبوق في جهاز الدولة عموما، وبروز ظاهرة ما يطلق عليه العراقيون اسم "الفضائيين" كناية عن الموظفين المسجلين في سجل الرواتب ولايعملون في الدولة. عليه الانتقال إلى مرحلة بناء أسس الدولة العصرية التي توظف الطاقات في حقل العمل، والتخلي عن ثقافة السلطة التي تروم كسب الأتباع الموالين على حساب الكفاءات، من خلال التعيينات العشوائية في الوظائف الذي ساد وأنتج سابقة خطيرة بوجود ثمانية ملايين موظف "فضائي"، يستولون على أكثر من 50 في المئة من ميزانية الدولة بنمط من البطالة المقنعة لموظفين بيروقراطيين، يستهلكون الميزانيات بلا منتج حقيقي، وتخصيصات غير مسبوقة للمؤسسات الأمنية والعسكرية والدرجات الخاصة، وانفاق على أدارة الرئاسات الثلاث بنسبة 43 في المئة، على حد قول وزير المالية فؤاد حسين في تصريح متلفز.
إن استمرار الاحتجاجات على فساد السلطة تتطلب وعيا جديد للحكومة المقبلة، بالعودة للدولة التي تفرض القانون والنظام ووقف الهدر في المال العام، والشروع في بناء دولة المؤسسات مستقلة السلطات. والعمل الدؤوب لإخراج البلاد من حالة اللااستقرار التي عاشتها منذ العام 2003، ونبذ سياسة إثارة الهلع والتخوين الذي اعتمدتها أحزاب السلطة بإثارة الطائفية التي أسقطها الشعب مؤخرا.
وعلى الرغم من قصر فترة الحكومة المقبلة الافتراضي حيث لايتجاوز سقفها العام الواحد، على أن لاترشح للانتخابات المقبلة، وتقتصر مهمتها على التهيئة لإجراء إنتخابات نزيهة وشفافة بقانون جديد ومفوضية منتقاة من قضاة مشهود لهم بالنزاهة، مع مطالبات بأن تكون حكومة مصغرة، من شانها إيجاد حلول مناسبة للخروج من الأزمة الحالية. والهدف حكومة دائمة أمدها اربع سنوات تقع عليها مهمة التخلص من الظواهر التي سيطرت على مشهد العراق الملتهب الذي احتج شبابه من أجل حياة أكبر قيمة و أرفع مكانة.