"من عوامل سقوط الدولة استحواذ مجموعة من المرتزقة والفاسدين على الحاكم حتى يكونوا سمعه وبصره، فيزينوا له القبيح ويقبحوا له الحسن" ابن خلدون.
ولم يكن الرئيس المعزول البشير بحاجة إلى فاسدين، فقد كان يقوم بذلك بشكلٍ أخطر من زمرته، حتى أنّ الإدانة التي حصل عليها الأسبوع الماضي بتهمة الفساد المالي لا تتناسب مع حجم الجرائم المُرتكبة في حق الشعب والبلد. وهو ما أخرج الشعب السوداني في ثورته الشعبية ضد الديكتاتورية واستغلال السلطة والفساد، وتضييق الخناق عليه. بدأت الثورة السودانية بمحاولاتٍ متفرّقة وخجولة على مرّ السنوات الماضية، وقد جرى وأدها في مهدها. انتفض الشعب محتجاً بشكل سلمي على قرارٍ سابق قضى برفع الدعم عن المحروقات، ثم اشتعلت الثورة بسبب أنَ الشعب رأى أنّ سنواته تكلّلت بالضيم المتنامي عبر ثلاثة عقودٍ من الزمان.
وإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية، فإنَّ الثورة السودانية التي تفجَّرت في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، استمدَّت عناصر نجاحها من ضعف النظام نتيجة عوامل عدة من بينها الصراع بين مؤسسات الحكم كأحد أوجه الفساد السياسي. وهذه العوامل تكاد تكون شبيهة بمسبّبات الثورات السودانية في عهودٍ سابقة، أمَّا أوجه الاختلاف فهي في تلقائية ثورة ديسمبر والوعي المُبكّر لشباب في مقتبل العمر.
تلقائية الثورة
تجيءُ ذكرى الثورة السودانية 19 ديسمبر، وصورة الغضب الشعبي التي اشتعلت من عطبرة، مدينة الحديد والنار، ما زالت في أنصع حالاتها. وأخذت المدينة العمالية هذا الاسم لوجود رئاسة سكك حديد السودان بها، وكانت مهداً للحركة النقابية في السودان. واختلفت هذه الاحتجاجات عن سابقاتها من حيث لا مركزية التحرك، إذ انطلقت من أقاليم السودان المختلفة قبل العاصمة الخرطوم، ثم عمَّت القرى والحضر. وفي هديرها المكون من فئاتٍ عمرية مختلفة مزودة بطاقةٍ شبابية دفَّاقة، هم على قدرٍ عالٍ من الوعي السياسي والإدراك الحقوقي، بدأت الثورة تتحول من قوة الدفع الذاتي العفوي إلى تحركاتٍ تتسم بالتنسيق والتنظيم.
ورأى كثيرون أن تلقائية الثورة هي سبب قوتها، وهذا ما لم تُدركه الحكومة السابقة، فلم يفتح الله عليها بمخاطبة أسباب الأزمة وإنَّما واجهتها بإلإنكار على المحتجين، وهضم حقهم في التعبير عن رأيهم المطالب بالتغيير السلمي. بل تصاعدت أصوات المسؤولين بالاستخفاف بالثوّار والتضييق عليهم والإصرار على التشبُّث بالحكم. وأمام صمودهم لجأت الحكومة إلى استخدام العنف المفرط والقتل ما أدى إلى استنفار الشعب ذوداً عن كرامته.
ليس حدث واحد وإنّما مجموعة أحداث ساخنة خيّمت على السودان منذ عام، لن يعود السودان بعدها إلى ما كان عليه قبل ثلاثة عقودٍ. شهدت السنوات الأخيرة تضعضع النظام الحاكم وفرفرته، وكلما خارت قواه تهرع إليه جهات من خلف ستار تنتشله وتهبه قبلة الحياة فيرجع بعدها هائجاً كما الثور في مستودع الخزف.
اشتعلت التظاهرات في السودان، لجوعى على حافة العدم لا يثنيهم شيء عن تقديم أرواحهم لأن لا شيء يخسرونه بعد فقدانهم لأبسط مقومات الحياة. هذه الهبّة الشعبية التي استيأست من المعارضة الخاملة، لم تتلون بأي لون حزبي، فما حركها كثيرٌ في مقدمته هموم المواطنين والضائقة الاقتصادية والفساد المستشري الذي أدى إلى كل ذلك، وتشبُّث الحزب الحاكم بالسلطة على الرغم من فشله الواضح. وتُعدُّ هذه التظاهرات هي الأعنف بعد احتجاجات سبتمبر (أيلول) عام 2013، ثم تظاهرات محدودة عام 2015 وهي الحبّة الرابعة من سبحة التظاهر المتواصلة بعد إحباط محاولة التغيير بانقلاب عسكري من داخل مؤسسة الجيش في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012.
ترك الرئيس البشير الأحداث المكتومة وراء ظهره على أشدها وهي تتهيأ للانفجار، وقام بزيارةٍ مريبة لسوريا، ولم تزل آثار زيارته إلى روسيا قبلها بعام في دائرة الشكّ على الرغم من خضوعها لكثيرٍ من التحليلات. يبدو الرابط بين الزيارتين جليّاً ولكن ما تركته الانطباعات السلبية من زيارته لسوريا فاق ما قبلها. وفي ظل حالة الاستقطاب الجديدة في المنطقة، برزت أسئلة جدلية لا تخضع لتقارب الرؤى أو المصالح الاقتصادية بقدر خضوعها لاعتباراتٍ أخرى لم يكن السودان فيها لاعباً للدور أصالةً عن نفسه وإنّما ربما، بحسب بعض الإشارات، نتيجة لإملاءات خارجية.
الدهشة التي تملّكت الشارع العربي من هذه الزيارة المفاجئة يمكن قراءتها وفقاً لمؤشّر، أنّها تمت بإيعاز خارجي، روسي أو عربي، وهو ما ذهب إليه البعض من أن دولاً في المنطقة تأنف عن كسر هذه العزلة عن سوريا فعهدت بها إليه، أولاً لأنّ البشير ليس في موقع من يتخذ قراراته بيده بحكم ضعف موقفه الدولي. وثانياً لأنّه لا يهمه شيء، فعقدة المطالبة به من المحكمة الجنائية الدولية جعلته يكثر في الأسفار إلى دولٍ محدودة من غير الموقعة على ميثاق روما، تساعده في ذلك دول مثل روسيا بتوفير طائراتها. وبذلك امتلأ حتى فاض بإحساس كسره لحاجز العزلة الدولية وكسر أوامر الجنائية التي ما فتئ يقول عنها إنّها تحت حذائه.
زيارة دمشق
زيارة البشير إلى دمشق أعطت انطباعاً خطيراً وهو أنّه يتحدى شعبه علناً بأنّ بإمكانه اتخاذ إجراءات بشار الأسد ذاتها في القمع والحرق والإبادة. وليس غريباً توافقه وانسجامه وتأييده الضمني لأفعاله. أما تكلفه المشقة والذهاب إلى بشّار على الرغم من تباعد الشقة، ونظراً لأنّه ليس هناك من هدفٍ واضح، فإنّ الأمر بدا غريباً ومستفزاً للشعب السوداني أكثر من الشعوب العربية الأخرى.
وبينما يدكّ ثور نظرية الفوضى الخلّاقة مستودع الحكومة السودانية دكّاً، كان التخذيل يحوم لفعل الثورات داخلياً وخارجياً. نبع التخذيل الداخلي من النزعة الانفصالية للثوار وتفرّق ريحهم بين ثوار من أجل الثورة وإسقاط النظام، وثوار حزبيين وطائفيين يقفون على دكّة الانتظار. غير أنَّ هذه الثورة لم تحدق فيها التمايزات على المستويات الاجتماعية والمناطقية التي كانت تعاني منها أنظمة الحكم السابقة، التي أُعيد صياغتها في ثورة 21 أكتوبر 1965، ثم في ثورة 6 أبريل (نيسان) 1985. فالثورات السابقة لم تقطف ثمار نجاحها، وإنّما كان الخلاف الطائفي والأيديولوجي صارفاً للجهود عن مشروع إسقاط النظام بشكلٍ كامل. وخصوصية الوضع السوداني ناشئة من أنّ المشروع الثوري قام على جذوات وبقايا أيديولوجيات متجذّرة في تربة المجتمع السوداني، ما يصعب التفريق بين الانتماءات المختلفة. هذا الوضع من التخذيل الداخلي للثورة كشفه انكفاء الفعل الثوري بفعل انتماءات أفراده، مجسّداً ما كان يُمارس على المجتمع من تسلط، ورافعاً من وتيرة انقسام المعارضة نفسها وتحولها إلى فصائل غير مؤتلفة.
في الواقع لم تنفصل الفترة الزمنية الممتدة منذ استقلال البلاد في خمسينيات القرن الماضي سوى من ثلاث فترات ديمقراطية قصيرة تنتهي في كلّ مرة بنظامٍ عسكري أكثر قمعاً وأطول عمراً. ولكن الاختلاف بين الفترات الانتقالية السابقة والحالية هو أنَّ السابقة عاشت تحت عباءة القوى السياسية الحزبية والطائفية، أما الحالية تحاول التعافي من ذلك لولا الراكبين قطار الثورة غير عابئين بالمحطات والمطبات بقدر ما يهمهم تحقيق طموحهم ومصالحهم الشخصية.