لعل إحدى المفاجآت التي حملتها اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورتها الجديدة، هي اسم الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات عبر روايته "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" (المؤسسة العربية )، الذي يعيش منذ أكثر من عشرين سنة في المنفى السويدي، في حال من العزلة الإبداعية شبه التامة، منقطعاً عن العالم العربي "جغرافياً" فقط، بينما هو يحضر في المعترك الشعري والروائي حضوراً طاغياً، عبر أعماله التي تتوالى وتنشر في مدن عربية عدة، عطفاً على ترجمة بعضها إلى لغات غربية. ربما لم يغادر بركات السويد منذ تلك السنوات الطويلة ولم يلبّ أي دعوة وجهت إليه عربياً، مؤثراً الحضورعبر كتبه التي تتخطى الخمسين. وكان سليم بركات يصر على عدم الترشح إلى أي جائزة من الجوائز غير القليلة التي تُمنح في العالم العربي، مؤثراً عدم كسرعزلته "المكانية" والخروج إلى الأضواء، على الرغم من إلحاح الكثير من أصدقائه عليه بالترشح، وكلهم ثقة بفوزه سواء في حقل الشعر أو الرواية. وبعض هؤلاء نقاد تناولوا أعماله وتوقفوا عند ظاهرته الفريدة وموقعه الريادي في الحركتين الشعرية والروائية الجديدتين. لكنّ صاحب "الجمهرات" ظل يعاند، ولم يقع تحت إغراء الجوائز وما يرافقها من أضواء وصخب إعلامي، علاوة على قيمتها المادية التي تخفف من عبء الحياة في المنفى السويدي. فهو لا يعرف البحبوحة ولا يتنعم برغد العيش، لكنه مكتف، كما يقول بعض أصدقائه القلة، براتب عادي يتقاضاه من الدولة بصفته كاتباً يحمل الجنسية السويدية وينصرف إلى الكتابة، إضافة إلى ما قد يرده من بيع كتبه وترجماته وهو قليل طبعاً. وعلى عادته، لم يهتم بركات يوماً بجمع "ثروة" ولا بتوفير مبالغ ولا بالركض وراء المال، بل اختار أن يعيش حياة زهيدة، مكتفياً بالقليل وغير متطلب، همه الأول والأخير أن يكتب، وأن يوفر مؤونته من مشروبه الذي تحول من الفودكا إلى النبيذ المحلي، تبعاً لارتفاع الأسعار، كما أسرّ مرة إلى أحد أصدقائه.
تُرى هل أغرت جائزة البوكر سليم بركات فخرج من عزلته ووافق على الترشح للمرة الأولى إلى جائزة، أم أن ناشره الدؤوب ماهر الكيالي، صاحب المؤسسة العربية للدارسات والنشر، هو الذي أقنعه أو بادر شخصياً بترشيحه مُحرجاً إياه؟
أياً يكن الحافز على الترشح، فخطوة صاحب "الجندب الحديدي" بدت مفاجئة جداً وجميلة جداً، فهو يستحق الخروج إلى العلانية وكسر جدران عزلته والإطلالة على قرائه في صورة أخرى، قريبة وأليفة. معروف أن أدب بركات، شعراً ورواية، هو نخبوي ومتين وصعب، وبعيد كل البعد من الذائقة العامة والأعمال السهلة والبسيطة، وليس في متناول القراء العاديين والعابرين... لكن هذه المواصفات ترسخ موقعه الريادي وتكرس تجربته المتفردة، التي لا تماثلها تجربة عربية أو أجنبية، ولا تضاهيها في حفرها العميق داخل الذاكرة المتعددة: الشخصية والمكانية والأسطورية والوجودية واللغوية. وكما عمد في روايات سابقة إلى استعادة معالم ماضيه الكردي وماضي أرضه الأولى يسترجع في روايته الجديدة بعضاً من معالم مسقط رأسه، القامشلي، وتحديداً آثار الحارتين اليهودية والأرمينية اللتين كانتا في صلب بيئته المتعددة الإتنيات والأقليات. ويتعمّق في استكشاف الأبعاد الإنسانية والمادية والرمزية التي ربطت بين الجماعات المتآلفة والمختلفة في آن واحد. أما الزمن فهو زمن ما بعد حرب 1967 أو الهزيمة التي نشأت عنها سلطة مستبدة باشرت العمل عبر أجهزتها على فتح باب هجرة اليهود من مدينة القامشلي، بتهريبهم إلى تركيا ولبنان، ومنهما إلى قبرص ليتوزعوا من هناك على فلسطين المحتلة والولايات المتحدة. ويتعاقب الزمن ليبلغ فترة النظام البعثي وما نجم عنه من أحوال استبداد مريع.
عائلة كردية
تدور وقائع الرواية أساساً حول عائلة كردية تتكون من الأب أوسي الموظف في شركة الكهرباء، وزوجته هدلا وابنيهما كيهات في السادسة عشرة من عمره، وموسى ابن التاسعة. تقيم الأسرة الكردية في جوار الحي اليهودي الشهير آنذاك في القامشلي، ما يجعلها على علاقة بهذا الحي وقاطنيه. وتتجلى العلاقة الإنسانية في الصداقة التي تجمع بين الابن كيهات ورفاقه في المدرسة من أمثال نعيم سامي وسمير إسحق ورحيم وهما من اليهود، وبوغوس جانيك من الأرمن.عطفاً على العلاقات "التجارية" التي تفرضها البيئة ومنها مثلاً علاقة كيهات براحيل التي تبيع اللحم، وزنابيلي الذي يملك حانوتاً لبيع أكياس القمح والشعير الفارغة، والذي يعمل كيهات عنده في أيام العطلة المدرسية. ولا بد هنا من علاقة حب تمنح الرواية وجها آخر، وهو الحب الذي جمع بين كيهات ولينا ابنة راحيل.
تتوزع وقائع الرواية أو أحداثها بين قطبين: داخل البيت العائلي، والعلاقات القائمة بين أفراده، كالأب وزوجته وأبنائه، والحياة اليومية، والأثر الذي تركته حرب 1967 على واقع هذه الأسرة ... أما القطب الثاني فهو الحياة داخل المدينة، التي بدأت تشهد انتشارالأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وهو الأمر الذي أسهم في مضايقة الناس ولا سيما اليهود الذين تعدهم الدولة غرباء عن أيديولوجيتها. في هذا الفضاء "المكاني" أو "الجغرافي" تنطلق ما يكمن تسميته "المآسي" الصغيرة في الحي والبلدة، فتتفرّق العائلات التي تجمع بينها الجيرة والصداقة تحت وطأة السياسة الرسمية، وتتبدّد ملامح العيش المشترك بين الطوائف والإتنيات ويبدأ ترحيل اليهود الذين قامت بينهم وبين المواطنين علاقات صداقة متينة تخطّت عوائق الطائفية والعصبية.
طبعاً هذه خطوط عريضة تمثل صورة بانورامية لهذه الرواية الضخمة والفريدة التي تتجاوز الـ560 صفحة والتي شاءها سليم بركات استعادة شاملة لحقبة وبيئة وجماعات، هو خير العارفين بها. فهو عاش طفولته ومراهقته في القامشلي قبل أن يغادرها إلى دمشق ثم إلى بلاد الغربة الواسعة بين بيروت وقبرص والسويد. وحينذاك كانت القامشلي أحد مختبرات العيش المشترك والتفاعل الثقافي واليومي، قبل أن تدمرها إيديولوجيا حزب البعث.
ختاماً لا بد من توجيه تحية إلى هذا الشاعر والروائي الكبير الذي يمثل ظاهرة فريدة، في حركة الشعر والسرد العربيين، لخروجه من عزلته الابداعية إلى عالم طالما كان غريباً عنه. لكن عزلة بركات الإبداعية لم تبعده يوماً عن معترك الحياة الأدبية العربية، بل جعتله انطلاقاً من منفاه الطوعي، صاحب موقع حاضر كل الحضورعربياً.