يهدِّد نهم الصين بـ"إيجياو"، وهو مادة جيلاتينيّة اكتسبت قيمة ماديّة عالية لاستخدامها في صناعتي الطبّ ومستحضرات التجميل الصينيَّين التقليديَّين، وجود الحمير في البرازيل، علاوة على أنّ هذه الحيوانات تعاني الأمرين غالباً قبل الذبح لما تتعرّض له من مغالاة في الوحشية وسوء المعاملة.
"إيجياو"، المادة التي تُصنَّع عن طريق نقع جلود الحمير وطهوها، تُستخدم للأغراض الطبيّة في الصين منذ قرون عدة. غير أنّ التزايد في ثروات الطبقات الوسطى الآخذة في الاتساع تسبّب في ارتفاع حادّ في طلب هذا المنتج وفي زيادة سعره بشكل هائل، ما أوجد تالياً صناعة قويّة قائمة بحد ذاتها. وحسب بعض المصادر، تستهلك الصين قرابة خمسة ملايين جلد حمار سنوياً، تصل قيمة كل منها إلى 3000 جنيه إسترلينيّ في السوق الآسيويّة.
في الواقع، ليست تربية الحمير بالأمر اليسير، لذا اتجهت الصين إلى بلدان فقيرة لتلبية الحاجة إلى تلك الحيوانات. مثلاً، شهدت حملة منسّقة من جانب الشركات الصينيّة، مدعومة بضغوط سياسيّة، استيراد مئات آلاف الحمير من إفريقيا وأميركا الجنوبيّة. لكن في المناطق الريفيّة التي غالباً ما تكون فقيرة في شمال شرقيّ البرازيل، جرّ تصدير الحمير إلى عواقب وخيمة هدّدت فرصة هذا الحيوان في الصمود، كما مست سبل العيش في المنطقة.
"إذا كنت تملك حماراً، لا تفرِّط فيه"، يقول خوسيه أراوجو دي سوزا مزارع يعتمر قبعة من الجلد في سوق الماشية في كانسانكاو، على بعد 220 ميلاً (354 كيلومتراً) من سلفادور، عاصمة ولاية باهيا. وبينما يضيف "أيام الحمير معدودة هنا!"، تنتظر ثلاثة بغال بدأب في الظل في مكان قريب وصول صاحبها الجديد.
معلوم أنّ الحمير تملك قوة وصلابة فريدتين، لذا تراها مهيأة بشكل مثاليّ للأعمال الشاقة في سيرتاو الشاسعة، تلك المنطقة النائية في البرازيل، وقد جعلاها منذ سنوات بعيدة مشهداً مألوفاً في جميع أنحاء هذه البيئة القاسية الأشبه بالأرض الوعرة المتوحِّشة. لكن في رحلة أخيرة امتدّت على مسافة 1600 ميل (نحو 2575 كيلومتراً) عبر سيرتاو إلى الجنوب الغربيّ من باهيا، وهي المنطقة التي تشهد كثافة في تجارة جلود الحمير، رصدنا 15 حماراً فقط.
الحال أنّه منذ وافقت السلطات على تصدير لحوم الحمير والجلود إلى الصين في يوليو (تموز) 2017، قُتل أكثر من 100 ألف حمار في ثلاثة مسالخ في باهيا، كذلك تصبو الدولة إلى تصدير 200 ألف جلد في السنة، على الرغم من أنّ البرازيل تعدّ موطناً لما يربو قليلاً على 900 ألف حمار، وفقاً للإحصاءات الرسميّة لعام 2012. من ثمّ، في حال وصلت نسبة الذبح إلى عدد جلود الحمير المطلوب تصديرها إلى الصين، ربما تختفي هذه الحيوانات الأليفة من البرازيل في غضون أقل من خمس سنوات.
في الواقع، يصطاد التجار الانتهازيون الحمير في البرية أو يشترونها بأقلّ من 10 جنيهات إسترلينيّة من فلاحين لا يدركون قيمتها الكامنة. للأسف، يمثل السماسرة عديمو الضمير -ومن بينهم عمّال ريفيِّون وتجار وأرباب النقل ومزارعون وشركات تتولّى الخدمات اللوجستيّة- سلسلة ممتدّة مليئة بممارسات مشبوهة وقليل من الضوابط ذات الجدوى.
هكذا، تُنقل الحمير في شاحنات على طول الطرق الخلفيّة ليلاً، وتُترك أحياناً لمسافة تتخطى الألف ميل (1609 كلم) من دون طعام أو ماء بغية تفادي عمليات التحقّق من توفّر الإذن الإلزاميّ. بعد ذلك، يحتجزها المزارعون المحليِّون في حظائر قرب مسالخ، تكون غالباً مملوكة لشركات صينيّة. في هذا الصدد، يعترف هيريسنالدو مارينيو، الذي يمتلك واحدة على غرار تلك المزارع في المناطق الداخليّة في ولاية باهيا، صراحةً أنّ التصاريح مزوَّرة أو ملفّقة لإخفاء أصل الحيوانات. ويقول إنّه عرف من أحد مورِّدي الحمير لشركة "كابرا فورت" Cabra Forte لتعليب اللحوم البالغ عددهم 12 موزِّعاً، أنّ سائقي الشاحنات يُدرجون بشكل غير دقيق مزرعته كنقطة انطلاق لشحنتهم. ولكن في الواقع، كما يذكر، تصل الحمير من تاجر يُعرف فقط باسم "مورال" يطوف شمال شرقي البلاد بحثاً عن هذا الحيوان.
يمكن أن تترتّب عن غياب التنظيم والتفتيش عواقب مخيفة على الحمير نفسها. في عام 2018، طارت النسور الجارحة حول مزرعة مجاورة لمصنع "سودويستي" لتعليب اللحوم في بلدة إتابيتنغا البرازيليّة. عندما وصل السكان المحليِّون إلى العقار، وجدوا أكثر من ألف حمار ممدَّدة على الأرض. هلك 200 حمار، بينما كانت 800 أخرى تكابد الجوع أو العطش أو لا تقوى على الحركة. في شريط مصوَّر، عبثاً يحاول حمار صغير الخروج من جسد والدته، التي كانت مريضة جداً لدرجة أنها عجزت عن الولادة. هلك كلاهما لاحقاً. في فيديو آخر، يكافح حمار ضعيف لتحرير نفسه من بين كومة خانقة من الجثث.
استأجرت "كويفنغ لين"، شركة صينيّة متخصِّصة في أعمال السمسرة تحمل اسم مالكتها، تلك المزرعة. في النهاية، اُتهمت لين، كما زوجها زنان وين، بإساءة معاملة الحيوانات وتلويث نهر قريب في المنطقة، إذ تسمّمت مياهه بأجساد متحلِّلة لأعداد من الحمير. بناء عليه، حظرت المحكمة ذبح الحمير في جميع أنحاء ولاية باهيا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018. أمّا شركة "كويفنغ لين" فرفضت إبداء أيّ تعليق.
يتذكّر إيرينو أندرادي قائد شرطة إتابيتنغا تلك الحادثة قائلاً، "كان الأمر فظيعاً، لم نرَ شيئاً من هذا القبيل هنا في وقت سابق. لم يكن لدى الحيوانات ما يكفي من الطعام، وذهبت إلى النهر بحثاً عن الماء، فانتهى بها المطاف غرقاً لأنّها عجزت عن الخروج من المياه (إذ كانت ضعيفة جداً)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد أيام من اكتشاف المشاهد المروِّعة في إتابيتنغا، أُغلقت مزرعة أخرى في المنطقة. وغُرِّم مالكها جواو باتيستا، الذي كان يتقاضى 28 جنيهاً إسترلينياً مقابل كل شاحنة محملة بالحمير مرّت عبر مزرعته.
يقول باتيستا، "شعرت بأسف على الحيوانات، إذ يكابد المرء هنا العيش إلى جانبها. كانت الحمير تتضوّر جوعاً فعلاً عندما غادرت (ولاية بيرنامبوكو المجاورة) ثمّ أمضت يومين أو ثلاثة أيام من دون طعام، وعندما وصلت إلى هنا، راحت تقضم لحاء النباتات بشراهة".
بعد خمسة أشهر، في بلدة إقليدس دا كونيا، على بعد 430 ميلاً (692 كيلومتراً) من إتابيتنغا، برزت مزاعم جديدة عن سوء معاملة تتعرّض له الحمير من جانب "كيوفينغ لين". في النتيجة، عُثر في مزرعة سانتا إيزابيل على 800 حمار أخرى تعيش في ظروف غير صحيّة مماثلة، في حين أنّ 400 على الأقل لقت حتفها. يقول مارسيا كوستا ميراندا الذي يتولى إدارة العقار، "لم يكن لدى أيّ من الشاحنات التي جاءت إلى هنا تصريح نقل. حسبت أن ثمة خطباً ما، إذ كان الكثير منها يُحتضر، لكنني لست مفتشاً، فما الذي كان يجدر بي فعله؟"
وفقاً لميراندا، تعمدت تلك الشركة إبقاء الحيوانات من دون طعام. يذكر، "قالوا إنّ الحيوانات المصابة بسوء تغذية كانت ملائمة إذ كان من السهل انتزاع جلدها."
حتى بعدما حظرت المحكمة ذبح الحمير، لم يتوقّف وصول الشاحنات المحمَّلة بالحيوانات إلى المزرعة. أُنزلت الحمير الواصلة حديثاً من الشاحنات وحُبست في منطقة ضيِّقة خالية من أيّ مرعى.
ليست الحال أفضل على امتداد سلسلة التوريد. حتى وقت قريب، لم تحصل أيّ شركة برازيليّة على تصريح لتصدير جلود الحمير ولحومها. عوض ذلك اشترت شركات خدمات لوجستية تلك الحيوانات من أجزاء أخرى من آسيا، التي تقبض ما بين 50 و75 جنيهاً إسترلينياً ثمناً لكل حيوان، ونُقلت من سلفادور إلى موانئ مثل هاي فونغ في فيتنام وهونغ كونغ. يقول روي ليل من "وكالة باهيا للسلامة الزراعيّة"، "تصل الحمير كسلعة مهرَّبة".
ومع ذلك، نظراً إلى الاحتياجات الاقتصاديّة لمنطقة شمال شرقي البرازيل المحرومة، يبقى كثيرون، بمن فيهم السياسيون البارزون، على استعداد لغضّ الطرف عمّا يرون أنّه أكثر من مجرد إجراء روتينيّ معقّد.
على سبيل المثال، عندما حظرت السلطات ذبح الحمير في باهيا، فقدت مدينة أمارغوسا الصغيرة 150 وظيفة مباشرة و200 وظيفة غير مباشرة من جراء إغلاق مصنع "فرينورستي" لتعليب اللحوم. نتيجة لذلك، طعن رجال الأعمال المحليِّون ومجلس المدينة، مدعومين من كثير من سكان المدينة، في القرار.
في نهاية المطاف، ألغي الأمر القضائيّ في سبتمبر (أيلول) من العام الحالي، إذ أعلن الفرع الإقليميّ للمحكمة الاتحادية في البرازيل أنّ الحظر تسبَّب في "أضرار جسيمة للنظام والاقتصاد في المنطقة" وأسفر عن "خسارة في الاستثمار الوطنيّ والدوليّ".
يقول إدواردو غورديانو، مدير الإذاعة المحليَّة، "كان في وسعك أن تشعر أنّ الناس كانوا يحتفلون عند السماح بذبح الحمير مجدداً. لم تشهد البلدة شكاوى بشأن سوء معاملة الحمير، ولم يهتم الناس بما حدث في البلدات الأخرى".
وفقاً لسجلات الضرائب البرازيليّة، ثمة عضوان برازيليَّان وعضوان صينيّان في إدارة شركة "فرينورديست". لكن حسب رجل الأعمال والتر آندريدي فيليو، أو "ليذر والتر" كما يُعرف، وهو واحد من أربعة مزوِّدي حمير معتمدين لدى شركة تعليب اللحوم، باتت "فرينورديست" اليوم مملوكة بالكامل للصينيِّين. وأخيراً، أصبحت الشركة البرازيليّة الأولى المسموح لها بتصدير الحمير مباشرة إلى الصين. في النتيجة، سيؤدي ذلك إلى نمو كبير في تجارة جلود الحمير. يقول فيليو، "كل شيء جاهز (المسلخ) لإعادة التشغيل. الناس متحمِّسون جداً لقتل الحمير."
حتى أنّ "ليذر والتر" يرى أن الطلب على الجلود سيزداد في المستقبل. يقول في هذا الشأن، "اليوم نحصل على الحمير من الطبيعة، مجاناً أو مقابل لا شيء تقريباً، لكن في حال مواصلة الصين عمليات الشراء، فسنستثمر في قطاع توليد الحمير وتربيتها."
غير أنّ البعض يعتقد أنّ الحمير البرازيليّة تُباع بسعر بخس، مقارنةً مع قيمتها العالية في الصين. من بين هؤلاء سونيا مارتينز تيودورو، ممثلة منظمة "أس. أو. أس أنيملز" غير الحكوميّة في إتابيتنغا التي تتابع الشكاوى بشأن إساءة معاملة الحيوانات، إذ تلفت إلى "إنّ الحمير تُصدَّر إلى الصين كهدايا مجانيّة".
على الرغم من أنّ وزارة الزراعة البرازيليّة لم تقدِّم بيانات رسميّة عن تلك الصناعة، تشير التقديرات التقريبيّة إلى أنّ تجارة الحمير حقَّقت إيرادات إجماليّة بلغت زهاء 7.5 ملايين جنيه إسترلينيّ لشركات تعليب اللحوم في باهيا خلال ما يتخطّى السنة بقليل، ما يفيد تالياً بأن الأرباح تشكل جزءاً ضئيلاً جداً من القيمة النهائيّة لهذه التجارة.
وفقاً لتيودورو، توصلّت حكومتا البرازيل وباهيا إلى الاتفاق مع الصين لحثّها على تلزيمهما بمزيد من الاستثمارات. مثلاً، تأمل باهيا في تولِّي أعمال البنى التحتيّة الصينيّة في السنوات القليلة المقبلة، بما في ذلك بناء الموانئ والجسور وخطوط السكك الحديد وتفعيلها.
من جانب آخر، تمثِّل الأمراض خطراً آخر يتهدَّد بقاء الحمير على قيد الحياة. وفقاً لأحد التحليلات، نفق حوالي 5 في المئة من الحيوانات في إقليدس دا كونيا بسبب أمراض معدية على غرار "الرعام" (يعرف بداء الخيل أيضاً) وفقر الدم. يتحدّث في هذا الشأن الطبيب البيطريّ بيير بارنابي إسكودرو، الذي يعمل أستاذاً في الجامعة الاتحادية في ألاغواس، ويقول "يفاقم الإجهاد الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات، كما هي الحال في معسكرات الاعتقال."
وفي بعض مناطق شمال شرقيّ البرازيل، لا يزال الحمار جزءاً أساسيّاً ومستداماً من الحياة. مثلاً، يُستخدم في مدينة فالينتي بباهيا في صناعة ألياف السيزال، إذ تحمل تلك الحيوانات أوراق النباتات على طول المسارات الضيقة والمكسوة بالأعشاب إلى آلات التكرير ومن هناك تنقلها إلى حبال طويلة ممدودة حيث تُترك الألياف لتجفّ.
يعمل جوزيه دي جيسوس، 59 عاماً، مع حماره زي ماني من الاثنين إلى الخميس، فيما يستريح الحمار في الأيام الأخرى. يقول المزارع الذي اشتغل إلى جانب "زميله" لمدة عقدين من الزمن، "إنّه لطيف وعامل كادح". وحقَّقت صناعة السيزال، التي توظِّف 3000 أسرة وتهتمّ بـ 3000 حمار، 7.55 ملايين جنيه إسترليني في العام الماضي.
فضلاً عن ذلك، ثمة استخدامات مستدامة محتملة أخرى للحمير من بينها ما يُعرف بالعلاج بالخيول، كذلك السياحة الريفيّة، وحتى إنتاج الحليب. من جانبه، يعمل أدروالدو جوزيه زانيلا، أستاذ الطب البيطريّ في جامعة ساو باولو، على قدم وساق بغية تطوير استراتيجيات مستدامة للاستفادة من الحمير في شمال شرقيّ البرازيل.
يقول، "نسعى إلى أن تكون منطقة شمال شرقيّ البرازيل في القرن الحادي والعشرين قادرة على التعايش التعاوني مع الحمير، لأنّنا لن نسمح لحيوان حافظ على بقائه لمدة 500 عام بأن يختفي في غضون خمس سنوات."
مُوِّل هذا التقرير، الذي أنتجته "وايد أفينيوز" بالتعاون مع مؤسسة "ريبورت برازيل"، بمنحة من "ذي دونكي سانكشويري"، وهي مؤسسة خيريّة بريطانيّة تُعنى برعاية الحمير.
© The Independent