الفاتح من سبتمبر 1969م
شُغف الليبيون بمقولة نُسبت إلى أرسطو وأيضا هيردوت "من ليبيا يأتي الجديد"، وولع بها العقيد معمّر القذافي، من يقصد أنه الجديد الذي يأتي بالجديد ما جنّ به ودفعه للجنون، فالشابّ ذو الـ27 سنة استولى على السلطة في بلاد شبه قارّة، من حيث المساحة والثروة النفطيّة الهائلة وقلة عدد السكان، ولم يصدّق ما حدث، من هنا أصابه جنون عظمة، جعله يطرح نظريّة عالميّة ثالثة للعالم، فـ"كتاب أخضر" كما الإنجيل، كما ألّفت كاتبة إيطالية في السنوات الأولى من استيلائه على السلطة كتابا عنه عنوانه "القذافي رسول الصحراء".
رسول الصحراء الملازم أول قام بانقلاب عسكريّ في أول سبتمبر (أيلول) 1969م بجيش صغير، في بلاد فيها ثاني أكبر قاعدة عسكريّة أميركية في البحر المتوسط وقاعدة بريطانية مماثلة، قبيل الانقلاب وفي أغسطس (آب) غادر الملك إدريس السنوسي العجوز في إجازة إلى اليونان، حالة الطوارئ التي أعلنت عقب مغادرة الملك ألغاها رئيس الوزراء ونيس القذافي- لا صلة قرابة بين قائد الانقلاب ورئيس الوزراء الملكي هذا- قبل الانقلاب بثلاثة أيام، رجال الأمن والاستخبارات العسكرية الذين عرفوا جيدا أن ثمة مجموعة يقودها ملازم أول تستهدف إسقاط النظام، لم يهتمّوا البتّة بما أبلغهم به ضابط من ذي المجموعة.
من ليبيا يأتي العقيد. لأربعين حولاً شغله الشاغل في بلاد العرب فالقارة الأفريقية أن يأتي بالجديد بغضّ النظر عن ماهية جديده، المهم أن يكون ليس كمثله أحد، لهذا نجح في أن يجعل نفسه المهرّج، والبلاد التي حكم تعيش القرون الوسطى. كنموذج لتوضيح ذلك: عشتُ في حي الصابري وسط مدينة بنغازي في شارع– ما زال- لم يمسّه الإسفلت البتة، ولا المجاري، حيث يتحتّم تأجير سيارة لتفريغ الماء الأسود، ولا عرف التليفون الأرضي، ولا إضاءة عامّة للشارع، أما الماء فيتم عن طريق ملء خزان... وهلم. ولهذا لا بنية تحتيّة ولا فوقيّة ولا فخار لبلاد العقيد.
17 فبراير 2011م
كنت في القاهرة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 لحضور معرض الكتاب حيث قامت الثورة، والتي بدأت قبل أيام في تونس حيث حضرت انتخابات الرئاسة، شاهدت صور الرئيس زين العابدين بن علي رفقة صورة زوجته ليلى الطرابلسي، ولم أفهم هل هي مرشحة كنائب للرئيس أم كوريث.
ليس أمام الليبيين من طريق، الثورة الليبية من نافلة القول والفعل، هذا ما شاهدته يوم 11 فبراير لمّا عدت إلى بنغازي، سُدّت كل المنافذ ساعتها، بدت المدينة جبانة يلفّها الصمت والوجل، رغم الدعوات التي انطلقت عبر "فايسبوك" للخروج يوم 17 فبراير (شباط)، لإحياء الذكرى الخامسة للشهداء الثلاثة والعشرين الذين سقطوا في تظاهرة أخرجها النظام 2006 م لتندّد بالرسوم المسيئة للرسول الأعظم، لكنها انقلبت ضده.
مساء 15 فبراير قبضت أجهزة الأمن على المحامي فتحي تربل، محامي أهالي الأطفال الذين حُقنوا بالأيدز، القضية الشهيرة حينها، تجمّع بعض من هؤلاء الأهالي بعد ساعات أمام مديرية الأمن للمطالبة بإطلاق سراح المحامي المعتقل. ذهبتُ صحبة الدكتور محمد المفتي للاطلاع على ما يحدث، في منتصف الطريق قطع طريقنا حشد من شباب يهتفون "يسقط النظام"، أخذ المفتي يصور بالموبايل المشهد، تابعنا الحشد الذي يزداد حتى شارع دبي التجاري، ثم دخلوا شوارع متفرقة فظننا أنهم تفرّقوا فعدنا إلى بيوتنا، بعد ساعة في محطة "الجزيرة" سمعت هتاف الليبيين عند ضريح عمر المختار ببنغازي، والصديق المرحوم إدريس المسماري يدلي بتصريح للمحطة، بعدها بساعة سيُدلي بآخر لـ BBC العربية.
عرفت بعدها بوقت أن المصادفة وحدها كانت خلف ذلكم التصريح، حيث كان أصدقاء من الكتاب والإعلاميين المصريين في خضم الثورة المصرية بمقر دار ميريت للنشر يتناقشون، تحدثوا عن ليبيا ومقامها من الثورة الحاصلة على جانبيها. حمي النقاش فأخذوا يحاولون الاتصال بأصدقائهم في ليبيا ليستبينوا الأمر، ممن اتصلوا به كان إدريس المسماري، الذي أخبرهم أنه وسط تظاهرة تطالب بإسقاط النظام، طبعاً وحالاً اتّصلوا بزميل لهم بمحطة "الجزيرة"، التي اتصلت ونقلت على الهواء دون صور ما يحدث عند ضريح عمر المختار مساء 15 فبراير 2011 م.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
17 فبراير 2019م
بعد نصف قرن من انقلاب العقيد معمر القذافي، ليبيا "محلّك سر"، أي في حالة انقلاب، ولا بنية تحتيّة ولا فوقيّة، ولقد نجح العقيد في تحويل الثورة السلمية التي خرجت ضده إلى حرب أهلية، نتج عنها تدخّل دوليّ، حيث صدر في مارس (أذار) 2011 قرار 1973 من مجلس الأمن لحماية المدنيين من كتائب القذافي المدججة بالسلاح الثقيل والطائرات، والتي خرجت لاسترداد المدن التي سيطر عليها المدنيون، ما مثّل حينها أكثر من نصف البلاد، مثلاً في مدينة البيضاء بالجبل الأخضر استولى المدنيون بالأظافر على مقر إقامة للقذافي يحتوى على بيت ضد النووي وذلك في يوم 20 فبراير.
بدأ الليبيون يحتفلون هذا العام بذكرى ثورة فبراير، وهم يتذكّرون نصف قرن مرّ على الانقلاب العسكري، وهم بعد يعيشون وحل خمسين عاما غاصوا فيه بفضل انقلاب قلب حياتهم رأسا على عقب، لم يتسن لهم خلال النصف قرن وحتى الساعة أن يعيشوا السلام، لقد أدخلهم العقيد معمر القذافي في حروب في تشاد وأوغندا ولبنان وإيران ونيكارجوا وتونس ومصر والسودان... ولديهم أبناء قُتلوا في بقاع من الأرض لا يعرفونها ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، وبعد يغوصون الساعة في حربهم التي أعلنها ضدهم لأنهم صرخوا بغصّة "يسقط النظام".