500 عام مرَّت على وفاة عبقري عصر النهضة الإيطالية ليوناردو دافنشي (1452- 1519) ولا يزال تراثه محلَّ اهتمام العالم، إذ لا تتوقف جهود سبر أغواره وفك طلاسمه، وخصوصا في ما يتعلق بإنجازه الأهم كرسام والمتمثل في لوحة الموناليزا، التي لا تزال هي العمل الفني الأكثر جذباً لجمهور متحف اللوفر في باريس.
وفي هذا الإطار تأتي ترجمة كتاب "تراث دافنشي: أو كيف أعادَ ليوناردو اكتشاف العالم من جديد"، إلى اللغة العربية، وهو من تأليف الباحث والكاتب الألماني ستيفان كلاين، وترجمة ناهد الديب. الترجمة الصادرة حديثا عن المركز القومي للترجمة في القاهرة تبدأ بمقدمة للمؤلف عنوانها "سر العشرة آلاف ورقة"، وجاء فيها أنه في العام 1520 غادر أحد النبلاء قصر ملك فرنسا في أمبواز، وعبر مع بعض حاشيته نهر اللوار ممتطياً معهم ظهور الجياد، فساروا مسافةً حذاءَ النهر، ثم اختفوا في الغابات الجنوبية. كان النبيل يحمل معه صندوقاً، لم يكن كبيراً، ولكنه كان ثقيلاً لدرجة أنه كان يحتاج إلى رجلين كي يستطيعا أن يحركاه. ومع ذلك لم يترك هذا النبيل ويدعى فرانسيسكو مليتسي صندوقه أثناء رحلته، التي استمرت لعدة أسابيع، أن يختفي عن عينيه ولو للحظة. انتهت تلك الرحلة عند مدينة ميلانو، ومنها انطلقت رحلة أخرى نحو الشرق وانتهت عند سفح جبال الألب حيث فيلا استقر فيها الصندوق الثمين".
كان دافنشي قد فارقَ الحياةَ عن عمر ناهزَ السابعة والستين عاماً، في الثاني من مايو 1519، في بلاط ملك فرنسا فرانس الأول، وقد ترك في ذلك الصندوق ما يقرب من عشرة آلاف ورقة بالإضافة إلى اللوحات، والكم الهائل من الأعمال التي أنجزها على مدار حياته.
وإلى اليوم لا يزال هذا التراث محلَّ بحث وتأمل وقد أسفر عن إعادة تجميع أجزاء من مفكرات ليوناردو، ومن ثم أصبح العالم - كما يقول كلاين- لا يأخذ هذا العبقري مأخذَ الجد باعتباره رساماً فحسب، وإنما كباحث أيضاً، استفاد من بحوث مَن سبقوه، ومنهم العربي الحسن ابن الهيثم، وطورها، فضلاً عن ابتكاره أفكاراً لم يسبقه إليها أحد. وهكذا أخذ خبراء في مجالات شتى على مدى السنوات الأخيرة يولون الفنان القادم من فينشي اهتماماً كبيراً. بينما كان من الصعب على مؤرخي الفن، الذين تخصصوا في بحث أعمال ليوناردو، فهمُ بعض مذكراته ومسوداته، استطاع جراحو القلب وعلماء الطبيعة وكذلك المهندسون أن يتتبعوها، لكونها من صميم اختصاصاتهم.
ويرى كلاين أن هذه الأبحاث شكلت المنطلق الذي دفعه لكتابة هذا الكتاب، فهو لا يهدف إلى أن يكون مجرد تسجيل لسيرة فنان أو محاولة لإلقاء الضوء على حياته، بل هو محاولة للتعرف على شخص غير عادي، لم يوجد له شبيه. إنها محاولة لفهم مكنون الشخص، ورؤية للعالم بعينيه. فمفكراته، التي يمكن اعتبارها وثائق نادرة، تتيح فرصة التعرف على أفكاره، فبعد وفاته بحوالى خمسمئة سنة أصبح بالإمكان، وللمرة الأولى، قراءة هذه السجلات وفهمها بطريقة منهجية، والتعلم من ليوناردو.
ويؤمن كلاين بأن تراث ليوناردو لا يشتمل على اللوحات الإحدى والعشرين ولا الرسوم والاسكتشات التي خلفها وراءه فحسب، فالأهم منها طريقة التفكير ومنهجه اللذان ابتكرهما ويمكن اعتبارهما مصدر إلهام لنا اليوم. لقد وجد ليوناردو في المنهج الذي وضعه لنفسه، الإجابة على أسئلة عصر، لم تعد الأمور القديمة والمسلم بها صالحة لتقديم إجابات عليها. لقد رأى أنه على الناس في هذا العصر أن يتعاملوا مع مشكلات لم يكونوا يعرفون شيئاً عنها، تماماً مثل حالنا اليوم. لذلك لم يكن ليوناردو فناناً فذاً فحسب، بل لقد بحث في مجالات العالم المختلفة، واستطاع أن يكتشفه من جديد.
الفضول الجامح
وكثيراً ما وصِف ليوناردو باعتباره رمزاً لعصر النهضة، ورجلاً ذا "فضول جامح" و"صاحب خيال إبداعي محموم". وبحسب كلاين، كان ليوناردو "أول إنسان عصري ابتكر إنسانا آلياً قادراً على الحركة". وكذلك "قام بتصميم كومبيوتر، كما صنع أول صمامات للقلب". ويضيف: "نحن اليوم نقدر ليوناردو بوصفه رساماً قلَبَ فن عصر النهضة رأساً على عقب". أما الذين عاصروه، فقد كانوا يشيدون به ويمتدحونه، بوصفه عالماً استطاع باكتشافاته الرائدة أن يدق ناقوس الإيذان بانطلاق عصر جديد، وأن يبتكر أسلوباً جديداً في التفكير. فقد ربط مجالات علوم مختلفة ببعضها، بطريقة غير مسبوقة، فهي مرة بديهية وأخرى ابتكارية ومتحررة من أي تابوهات.
الكتاب يتألف من سبعة فصول: "النظرة، الماء، الحرب، حلم الطيران، الإنسان الآلي، تحت الجلد، أسئلة أخيرة". كما يتضمن خاتمة وملاحق عدة وقائمة المراجع التي استعان بها المؤلف. في الفصل الأول يركز كلاين على غموض المشاعر التي يعكسها وجه الموناليزا، ويقرر أن ليوناردو تعمَّد ذلك الغموض وفق أسس علمية توصل إليها بنفسه. وفي ذلك يقول كلاين: لم يتعمق أي فنان آخر في عصر ليوناردو - ولو من بعيد- في أسرار الطبيعة البشرية مثله، فمن خلال ثراء معلوماته تمكَّن مِن التلاعب بقسمات وجه الموناليزا، وكذلك بمشاعر المتلقي. فقسمات وجه السيدة الشابة ليست متناسقة: ترفع زاوية فمها اليسرة بصورة أعلى، ومن ثم فإن الناحيتين تنشران حالة مزاجية مختلفة، فإذا ما قمنا بإخفاء نصف وجه الموناليزا الأيسر، فإنها تبدو أكثر جدية، أما إذا أخفينا الجانب الأيمن، فإن الابتسامة تبرز بشكل أوضح. إن هذه الدرجة البسيطة من التماثل عادة ما تختبئ خلف ملامح الغير، ويرجع ذلك إلى أن المخ مقسَّم إلى نصفين، يخاطب كل نصف منه نصف الجسم بصورة عكسية (المرآة) فنصف المخ الأيسر يتحكم في عضلات الوجه اليمنى، بينما يتحكم النصف الأيمن من المخ في تعبيرات الوجه في الجهة اليسرى. وحيث إن نصف المخ الأيمن أقوى من الأيسر، في ما يتعلق باستيعاب المشاعر، فإن هذه المشاعر والأحاسيس تظهر بصورة أوضح على الجانب الأيسر من الوجه. وفي العادة لا نلحظ الفرق؛ لأننا ننظر إلى الوجه بأكمله.
معجزة الموناليزا
لقد أوضحت التجارب هذه العلاقة خلال السنوات القليلة الماضية فقط. أما ليوناردو فمِن الواضح أنه كان على عِلم بهذه التأثيرات الدقيقة، ونفَّذها بالفعل كي يظهر وجه الموناليزا على نحو يتعذر فهمه. لقد أفرط ليوناردو في تصوير الفروق الطبيعية لنصفي الوجه، بحيث لا يسع المتلقي إلا أن يخمن فيمَ تفكر السيدة الشابة أو تشعر. لقد فعل ليوناردو كل ما في إمكانه كي يزيد من الإثارة، فحتى كل نصف من وجهها على حدة لا ينم عن تعبيرها. فلا توجد له أي معالم واضحة، فكل النقلات بين الأضداد، بين الضوء والظل غير واضحة. ففي المكان الذي نتوقع فيه أن نرى بشرة الموناليزا، إذا بنا نرى مساحة غير محددة من الألوان: بدءاً من الأحمر على الخدين، حتى الأخضر الزيتوني على الذقن... هذه الدرجات تتداخل من دون أن نلحظ هذا التأثير المعروف بالمزج التدريجي للألوان sfumato ما يجعلنا نعتقد أن الوجه يتحرك في اتجاهنا، فيما نظرنا هو الذي ينتقل؛ لأن ليوناردو لم يترك لنا نقطة ارتكاز نقف عندها. لقد استهدف ليوناردو توزيع الضوء والظل على وجهها بطريقة تجعلنا نفشل في كل محاولة لنا لتفسير حالتها المزاجية. ويبدو أنه قام بحساب الإضاءة في كل ملليمتر مربع للوحته، بهدف الوصول إلى تأثير معين. ورغم ذلك لا تبدو لنا أي من التفاصيل وكأنها مصطنعة أو محسوبة، وإنما نرى الضوء المسلَّط على وجه السيدة يبدو طبيعياً تماماً. ويلاحظ كلاين أن الموناليزا تشترك مع الاتجاه الحديث لتخليق الصور أكثر مما تشترك مع الرسم التقليدي الذي ساد في زمن ليوناردو. ويضيف: إذا تأملنا الصور الرقمية التي نراها اليوم في الأفلام وألعاب الفيديو التي تزايد وجودها في المعارض في الآونة الأخيرة، فإننا غالباً سنلحظ أنها من صنع ماكينة، أما في حالة الضوء المسلَّط على الموناليزا، فإنه لا يبدو لنا من الوهلة الأولى فقط حقيقياً، لأن من يدقق النظر في اللوحة، يكتشف أن هناك شيئاً ما غير سليم: فالسيدة تجلس في شرفة، ويتضح ذلك من قواعد الأعمدة التي تظهر بالكاد في أركان اللوحة. وبالتالي فالمنطقي أن يأتي معظم الضوء من الجانب المفتوح من الشرفة، والمطل على المنظر الطبيعي في الخارج، أي أنه من المفترض أن تظهر لنا الموناليزا في مواجهة الضوء.
تُظهر هذه الحقائق أن ليوناردو كان متمكناً من اللعب بقوانين الضوء، لدرجة جعلتنا لا نلاحظ هذا النوع من خداع النظر، لذلك لا ينزعج المتلقي من أن الضوء في الواقع لا يظهر استدارات جسم الموناليزا كما فعل ليوناردو، وهكذا يمكننا تقبل ظهور تلك اللوحة وكأنها أكثر واقعية من الواقع.
وبحسب كلاين لم يكن خداع النظر غير معلوم لدى معاصري ليوناردو، فقد كان كتاب "كتاب عن الضوء" المكون من سبعة أجزاء قد ألَّفه على الحسن بن الهيثم الذي كان وزيراَّ في القرن الحادي عشر. إلا أن أحداً غير ليوناردو لم يرغب في أن يقوم بتطوير هذا الإرث. فالكتب الوحيدة المفضلة عن مبادئ الضوء عرفت في القرن الخامس عشر كتبها ليوناردو. اهتم ابن الهيثم أن يفهم قوانين انتشار الضوء وإدراكه بينما أراد ليوناردو أن يستخدمها كي يرسم عملاً فنياً مثالياً بعد أن تخطى الخمسين من عمره.
في الفصول الأخرى من الكتاب يوضح كلاين سبب ولع ليوناردو بالماء، كما شرح السبب وراء حلمه بالطيران. حكى عن رجل يمكن أن نرى فيه أنفسنا، وعن الشغف بالمعرفة وكآبة العوز.