اتبع "أنصار الله" سياسة القضم التدريجي، ثم الانتقال إلى مناطق جديدة يسيطرون عليها، وفي نهاية شهر مارس (آذار) 2014 اندلع قتال عنيف بين مسلحي الحوثيين والقبائل التي ساندتهم مع قوات الجيش على مدخل مدينة "عمران"، لكنه سرعان ما هدأ بوساطات قبلية أشبه بالهدنة ومعارك الاستنزاف، وبقي العارفون بالتفاصيل القبلية يحذرون من اقتراب معركة حاسمة للسيطرة على "عمران"، لكن الرئيس هادي لم يتحرك لوأد الفتنة التي كانت تشي بمستقبل دموي على امتداد البلاد، وأخطأ التقدير متوهماً أن الحوثيين لن يتجاوزوها، وكان هو شخصياً غير راغب في الدخول في معركة من أجل اليمن، طالما أنه قدَّر أنها لن تصل بآثارها إليه أولاً.
في وسط مناخ الترقب الذي ساد مرحلة ما قبل اندلاع نيران المعركة النهائية للسيطرة على عمران، تقاطعت مصلحة الرئيسين هادي وصالح، إذ كانا يسعيان في نفس اللحظة من دون اتفاق إلى تحقيق هدف واحد، هو التخلص من آخر معاقل الجيش الموالية لعلي محسن الأحمر شمالي صنعاء، وإنهاك بقايا حزب الإصلاح هناك، وسيبقى السؤال الغامض ومفتاح ما حدث بعد عمران هو هل تعمد الرئيس هادي، مثلما يقول خصومه، عدم التدخل لإنقاذ العميد القشيبي واللواء العسكري الذي يقوده أم أنه كان بالفعل عاجزاً؟، وكما ذكرت في الحلقة السابقة فإنه في الحالتين يتحمل المسؤوليتين الأخلاقية والوطنية، كما سيبقى السؤال عن دور الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وما ذكره خصومه بأنه طلب من مشايخ القبائل في المنطقة أن يقفوا هم أيضاً على حياد.
إن الإجابة الموثقة عن هذين السؤالين تحتاج إلى تحقيق مع كل من كان في قيادة الجيش في تلك المرحلة، وليس الغرض من ذلك هو إيقاع العقاب على المقصرين، ولكن لجلاء الحقيقة عن موقف كان الموجه لكل ما حدث في البلاد بعدها، وسيظل علامة فارقة في تاريخ البلاد يجب كشف أسرارها، ولقد التقيت عدداً من كبار القيادات العسكرية السابقين الذين كانوا في قلب الأحداث وطرحتُ عليهم السؤالين، وبطبيعة الحال كانت إجاباتهم تصب في سياق الدفاع عن أحد الرئيسين بحسب قربهم من هذا أو ذاك.
المدافعون عن الرئيس هادي يقولون إنه ظل بعد مرور أكثر من عامين على تولي الرئاسة، غير قادر على التحكم في القوات المسلحة، رغم أن وزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد، كان من أقرب العسكريين الموالين له، ويقولون إن قيادات الجيش العليا والوسطى ظلت موالية للرئيس السابق وتتبع توجيهاته، وأن صالح بقي قادراً على التأثير في مشايخ المناطق الشمالية، وقد يكون هذا صحيحاً إلا أنه يبرهن مجدداً على أن الرئيس هادي كان بالفعل عاجزاً عن أداء مهامه، وعوضاً عن بذل الجهد للسيطرة على مفاصل الجيش قام بتشتيت الوحدات على طول البلاد وعرضها تحت مسمى (إعادة الهيكلة)، وكان يحاول في كل تحركاته محاكاة ما كان يصنعه الرئيس صالح مع فارق أن الأخير كان قادراً على الإمساك والتحكم بكل خيوط الحكم وتحريكها في الاتجاهات التي تساعده على الاستمرار فيه.
ومع اقتراب ميليشيات الحوثيين من العاصمة كان مؤيدو الرئيس صالح يطلقون تصريحات بأنه طلب من بعضهم تحذير خلفه الرئيس هادي بعدم السماح للحوثيين بتجاوزها، ويزعمون أنهم نقلوا الرسالة إليه وأن هادي كان غير مقتنع بالتحذيرات وأشعرهم بالاطمئنان تجاه تحركات الميليشيات في اتجاه العاصمة والمدى الذي يمكن أن يصلوا إليه.
بعد سقوط عمران كتبت مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 بعنوان "أنصار الله بين حديث الخيانة والسياق الطبيعي"، وقلت فيه "إن طبيعة الأوضاع السياسية التي مرت بها البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية، كبلت الرئيس هادي، وهو أيضاً لم يستفد من الفرصة التاريخية التي لم تمنحها الأقدار لحاكم قبله فتباطأ في اتخاذ القرارات التي كان لها أن تثبت حكمه، وأهمها على الإطلاق حسم مسألة ولاء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وهو وإن كان قد تمكن من تغيير القيادات فيها، إلا أنه أخفق في الوصول إلى عمقها، كما أن هادي وقع رهينة في يد الذين رأوا الحكم مغنماً يريدون الانفراد بأكبر حصة فيه، وكان قلقه من الرئيس السابق وتوجسه من تحركاته معيناً لهم، كما أن إصراره على المضي قدماً في إدارة البلاد بنفس الأساليب العتيقة وعزلته عن محيطه أبعداه عن المشهد الحقيقي وتمكن من خلالهما المنافقون أن يزينوا كل سوء ويدافعوا عن كل خطأ".
كان تقدم أنصار الله من خلال هذه الثقوب يسير في سياقه الطبيعي، فلا جيش بعقيدة وولاء وطنيين، ولا إدارة للمؤسسات العامة بنزاهة وحيدة، ولا قوى سياسية قادرة على الارتفاع فوق جشعها، ولا رؤية واحدة للوطن، وكم كان لافتاً أن الرئيس هادي خرج من صنعاء فجر يوم 23 يوليو (تموز) 2014 (26 رمضان) لزيارة محافظة عمران بعد مقتل العميد القشيبي واستيلاء الحوثيين على المعسكر والمدينة، وفوجئ اليمنيون بخطابه الذي أثار جدلاً حول حقيقة أهداف الزيارة، إذ أطلق جملته الشهيرة "عادت عمران إلى حضن الدولة"، وكان تصريحاً متناقضاً مع الواقع الذي صارت عليه المدينة بعد أن سيطر عليها مسلحو أنصار الله، وليس سراً أن الزيارة تمت بموافقة قيادتهم وبتنسيق كامل بينهم وبين الرئاسة، فانسحبوا من النقاط التي كانوا قد أنشأوها على مداخل المدينة وسمحوا له بدخولها والبقاء فيها لالتقاط الصور ثم مغادرتها.
زيارة الرئيس هادي لعمران فسرها أنصاره بأنها جاءت لطمأنة السفراء الغربيين الذين أبدوا مخاوفهم من سيطرة ميليشيات على مدينة غير بعيدة عن العاصمة، ورغم وجاهة التبرير فإنه يسقط مجدداً أمام مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، بعد أن تخلت عن لواء كامل من جيشها وصمتت عن مقتل قائده، وتجاهلت هذا الأمر كما لو كان حدثاً عابراً.
وكان الضغط لتغيير العميد القشيبي والشيخ دماج وسيلة استخدمها الحوثيون لإظهار أن تحركاتهم لا تحمل إلا مطالبات سياسية واجتماعية، وكان الرئيس متمسكاً بشعار "الجيش يقف على الحياد" منطلقاً، معتبراً ما يدور في شمالي العاصمة معارك قبلية بين مؤيدي الإصلاح وخصومهم وأن الدولة ليست معنية بها، باعتقاد أنها ستضعف فقط خصومه ولن تؤثر على استقرار حكمه واستمراره.
ولم تجدِ النداءات بضرورة مواجهة مسلحي أنصار الله قبل دخول عمران، واستمر (حياد الجيش) وكذا المواجهات بصورة متقطعة مخلفة مئات القتلى من الجانبين، وكان سقوط المدينة تعبيراً فاضحاً عن العجز والتخلي عن آخر معقل للجيش النظامي شمالي صنعاء، وكان يفصح بجلاء عن انهيار قادم لآخر مؤسسات الدولة القادرة على وقف التصدي للميليشيات الشابة القادمة من شمالي البلاد متوجهة نحو العاصمة.