عقود ثلاثة انقضت على رحيل الكاتب والروائي الأردني غالب هلسا الذي ولد ومات في اليوم نفسه (18 ديسمبر - كانون أول 1932، 18 ديسمبر - كانون أول 1989)، وكان غادر بلده عام 1956، ملاحقاً لكونه عضواً في الحزب الشيوعي الأردني، وعاد إليه في كفن بعد وفاته بأزمة قلبية في العاصمة السورية دمشق. وما بين ذلك الخروج وتلك العودة المأساوية تنقَّل غالب بين عواصم عربية عديدة، بين بيروت وبغداد والقاهرة ودمشق، حيث كان على الدوام جزءاً من الحركة الثقافية والجدل المحتدم في حياة كل عاصمة عاش فيها، بغض النظر عن طول الإقامة أو قصرها. لكن إقامته في القاهرة كانت الأطول، والأكثر تأثيراً في تجربته الإبداعية وتكوينه الثقافي، وكذلك في الموضوعات التي شكَّلت محور انشغالاته الأدبية والفلسفية والسياسية.
لم يكن غالب هلسا روائياً أو كاتب قصة قصيرة فقط، بل كان من ذلك النوع من المثقفين العرب العضويين، المنشغلين بالسياسة والثقافة والفكر، يساجلُ في تلك الصيغ المختلفة من رؤية العالم، طامحاً إلى تحديث المجتمعات العربية، لا إلى تحديث الثقافة، أو تطوير الأشكال الإبداعية فقط، بل إلى تطوير الرؤى النظرية التي نفسر بها حركة المجتمعات، والثقافة، والسياسة، والفكر في الآن نفسه. انطلاقاً من هذه الرؤية أنجز غالب في العمر القصير، نسبياً، الذي عاشه، أعمالاً في الرواية، والقصة القصيرة، والنقد الأدبي، والفلسفة والفكر، والترجمة، ومقالات كثيرة في السجال السياسي، جاعلاً من الأشكال المتعددة للكتابة طرقاً مختلفة للنظر إلى الوجود الإنساني، مقلّباً هذا الوجود على وجوهه المتعددة من خلال السرد، والفكر، وقراءة التجارب الثقافية والفكرية للشعوب والمجتمعات الأخرى، ساعياً إلى فهم الإنسان العربي، والمجتمعات العربية. فإلى جانب رواياته ومجموعتيه القصصيتين، كتب غالب عن "العالم مادة وحركة" (في محاولة ماركسية مادية لفهم بعض مفكري المعتزلة)، و"الجهل في معركة الحضارة" (في رد على كتاب لمنير شفيق)، و"قراءات في أعمال: يوسف الصايغ، يوسف إدريس، جبرا إبراهيم جبرا، حنّا مينه"، كما ترجم "الحروب الصليبية" للروائي الإسرائيلي عاموس عوز، و"الحارس في حقل الشوفان" للروائي الأمريكي جي. دي. سالينجر، و"جماليات المكان" للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. وهو ما يدلُّ على تعدد انشغالاته وطاقته الفكرية والإبداعية التي جعلته واحداً من الكتاب المؤثرين في الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، والذين يستحقون مواصلة النظر في منجزهم الإبداعي والنقدي والفكري.
بين الأردن وصر
لكن الملمح الأساسي في تجربة غالب هو أن عالمه الروائي ينتسب إلى مصر أكثر مما ينتسب إلى وطنه الأردن لأسباب تتصل بشخصياته الروائية والجغرافيا التخيلية التي تتحرك في فضائها تلك الشخصيات. فهو في معظم أعماله الروائية يتحرك ضمن الفضاء السياسي والاجتماعي المصري لقاهرة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. لا يشذ عن ذلك من أعماله القصصية والروائية إلا مجموعتاه القصصيتان "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" (1968، وبعض قصص هذه المجموعة تتخذ من القاهرة فضاءً لأحداثها) و"زنوج وبدو وفلاحون" (1976) وروايته "سلطانة" (1987). أما في بقية أعماله الروائية فإنه يكتب عن القاهرة ويبني من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمشين في معظم الأحيان، ومن نقاشات اليسار المصري وانشقاقاته، عالمه السردي، مازجاً ذلك كله بتذكرات شخصية "غالب"، أو "خالد"، الذي عادة ما يأخذ دور الراوي في الروايات وتتصفى من خلاله الرؤى التي تحملها الشخصيات؛ كما أن هذه الشخصية تذكرنا من حين لآخر بماضيها أو طفولتها البعيدة في مسقط رأس غالب هلسا، وبلدته ماعين، أو مكان دراسته الإعدادية والثانوية في مدينة مادبا ومدرسة المطران بعمان.
من هنا يبدو غالب مسكوناً بالحياة الثقافية والسياسية المصرية في فترة معقدة من تاريخ العلاقة بين اليسار المصري والحكم الناصري في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وتتصل الجغرافيا التخيلية لرواياته وقصصه بتلك الحقبة الزمنية التي عمل خلالها في كل من وكالة أنباء الصين الجديدة ثم وكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية لفترة تتجاوز الستة عشر عاماً، مشاركاً بفاعلية في الحياة الثقافية المصرية إلى أن أبعد من القاهرة بأمر من السادات عام 1978 مغادراً إلى بغداد ثم إلى بيروت عام 1979، ومن ثمَّ إلى دمشق بعد الحصار الإسرائيلي عام 1982. ولعل اتصاله الحميميَّ بالبيئة المصرية، وصعود اسمه كروائي وناقد على صفحات مجلات اليسار المصري وصحفه، جعل هويته الجغرافية ملتبسة بالنسبة للعديد من النقاد والباحثين. فهو كان مصريَّ اللهجة، ظل يتحدث بها أينما ذهب بعد إبعاده من مصر مازجاً تلك اللهجة من حين لآخر بلهجات العواصم التي سكنها. كما ظل يختزن العوالم القاهرية ليعيد إنتاجها في رواياته التي كتبها لاحقاً، غيرَ قادر على التخلص من مخزون السنوات الاثنتين والعشرين التي عاشها في القاهرة. ويمكن أن نلحظ ذلك في أعماله الروائية الأولى التي كتبها في القاهرة: "الضحك" (1970)، و"الخماسين" (1975) و"السؤال" (1979)، و"البكاء على الأطلال" (1980)، وحتى في عملين أخيرين "ثلاثة وجوه لبغداد" (1984)، و"الروائيون" (1988) التي ينتحر فيها بطله غالب مأزوماً ومعتزلاً العالم وشاعراً بالخراب الذي يسكن التاريخ.
لكنّ الحنين الجارف إلى مسقط الرأس تجلى في بعض أعمال هلسا الروائية على هيئة تذكر جانبي أحياناً أو من خلال إفراد رواية كاملة "سلطانة" يستعيد فيها الكاتب ذكريات الطفولة البعيدة، معيداً تتتبع خطى بطله في طفولته وصباه ما يجعل "سلطانة" قريبة من روايات التكوين والتعلم، ويجعلنا نعيد النظر إلى أعماله الروائية الأولى على ضوء هذه الرواية المميزة لغة وشخصيات وطرائق حكي، واصلين عالم "سلطانة" بتلك التذكرات الجانبية التي نعثر عليها في قصصه ورواياته الأخرى.
الحنين المستعاد
من هنا يبدو من الصعب انتزاع غالب من حنينه الطفولي إلى مسقط رأسه وتغليب مرحلة الشباب والنضج على خلفية نموه الثقافي والأدبي. وقد برزت مرحلة الطفولة والصبا في أعماله الأخيرة كنوع من الاستعادة الحميمية لذكريات الطفولة التي غيبها النسيان. ومن ثمَّ فقد فتح خزائن ذاكرته وأعاد عجن هذه الذكريات مع أحلامه واستيهاماته وطريقة نظره إلى مسقط رأسه وسنوات تكونه.
ولعل كتابة غالب لـ"سلطانة"، بوصفها الرواية الوحيدة المكتوبة ضمن جغرافيا أردنية، هي ما أعاده إلى مسقط رأسه إبداعياً، إلى حد أنها ذكرتنا بـ"زنوج وبدو وفلاحون" التي كانت عملا قصصياً ــ روائياً نهل من بيئة سياسية واجتماعية غير البيئة القاهرية. لكن رحيل غالب في نهاية ثمانينيات القرن الماضي جعلت من "سلطانة" رواية وحيدة منقطعة السياق تقريباً عن أعماله الروائية الأخرى، وهي الرواية التي شكلت مع "زنوج وبدو وفلاحون" نوعاً من الثنائية السردية الضدية حيث تعيد "سلطانة" تأمل الطفولة البكر، والعالم الفردوسي، فيما تصور "زنوج وبدو وفلاحون" قسوة العلاقات الاجتماعية التي تربط البدو بأهالي القرى، وتقيم تراتبية معقدة بين المكونات السياسية والاجتماعية والديموغرافية للدولة الأردنية الحديثة.
يمكن النظر إلى أعمال غالب الروائية، استناداً إلى هذه الخلفية، بوصفها توتراً بين الفضاء المديني الصاخب المعقد والمكان الريفي البسيط الذي يرتبط بالحلم الفردوسي، وحضن الأم، والشعور بالحماية الذي افتقده الراوي في أعمال غالب التي تتخذ من المدينة فضاء لحركة شخصياتها. ويتجلى هذا التوتر، الذي يتخذ هيئة قوس مشدود على مدار السرد في معظم روايات الكاتب، في الحضور الوافر للأحلام، وأحلام اليقظة بصورة أساسية، التي تقطع سياق السرد وتعيد الرواية في العادة إلى الطفولة وفردوسها الريفي المفقود. بهذا المعنى تمثل المدينة في عالم هلسا كياناً مهدداً باعثاً على الرعب وعدم الاستقرار وافتقاد الطمأنينة، أياً كانت هذه المدينة: القاهرة، أو عمان أو بغداد. وهذا ما يفسر وفرة الأحلام وأحلام اليقظة التي تعيد الراوي، في العديد من روايات هلسا، إلى مسقط الرأس، وفردوس الأمومة المفقود.