شهد العام 2019 كثيراً من التغيّرات في الجغرافيا السياسية والتوازنات الدولية، ومن السابق لأوانه تقييمها كليةً، ووضع حساب دقيق للفرص والتحديات المترتبة عليها دولياً وإقليمياً ومحلياً.
ومع هذا، أعتقدُ أنه من الصواب الاستخلاص أن من أهم شواهد العام المنصرم كان انحصار المنهج الأيديولوجي طويل الأجل الذي كان يستهدف سابقاً مساحات واسعة في المجتمع الدولي، مقابل صعود التوجه البراغماتي الذي يميل إلى السياسة الواقعية لتحقيق مصلحة وطنية مباشرة على المدى القصير وقدر غير قليل من الانعزالية. وأحياناً يكون ذلك على حساب المنظور متعدد الأطراف للنظام الدولي، الذي وضعه ميثاق الأمم المتحدة منذ ثمانين عاماً، وهو منظور أبرزه عصر العولمة الذي نعيش فيه الآن.
والصفة الثانية لعام 2019 فكانت المصارحة والمكاشفة، فحقيقة مواقف الدول لم تعد خافية على أحدٍ، بل لم تعد الدول تسعى إلى وضع سياساتها في سياق فلسفات كبرى منمقة ومعقدة، فالأحداث كشفت الأمور بوضوح ودون مواربة، المصلحة المادية السريعة هي الفيصل وجوهر القرارات والمواقف.
فمن أميركا استمعنا إلى مواقف وتصريحات تصادمية وخشنة، وإنما شهدنا مرونة وليونة في تحديد السياسات والإجراءات، والإقلال من استخدام القوة، فجأت تصريحات الرئيس ترمب حادة للغاية تجاه الصين وإيران وفنزويلا، وحتى تجاه بعض حلفائه، وأظهر حذراً شديداً في خطواته التصعيدية العملياتية، وتوصل إلى اتفاق تجاري مع الصين الشعبية، واكتفى بتطبيق عقوبات اقتصادية على إيران، ودون أي رد فعل عسكري، وحتى بعد أن حمَّلت إيران مسؤولية الاعتداء على المرافق البترولية السعودية، ولم تتخذ الولايات المتحدة إجراءات فاعلة ضد الرئيس الفنزويلي مادورو، رغم اعترافها برئيس البرلمان بديلاً شرعياً له.
وتجنّب ترمب الدخول في مواجهات مع روسيا، أو اتهامها بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة، رغم تأكيدات أجهزة الاستخبارات الأميركية ضلوعها في هذا، وركز نقده لها على مشروعات الطاقة عبر ألمانيا.
كما تجنّب الرئيس الأميركي، حتى الآن، التصعيد مع رئيس كوريا الشمالية، رغم أنه كان من أول المستهدفين بتصريحاته الحادة، قبل عقد مفاوضات رئاسية مباشرة، وظهور أمل في إحراز تقدم، أمل بدأ يتبدد مرة أخرى ونحن نقترب من التوتر الكامن.
وأعلنت الإدارة الأميركية عدة مرات مبادرات إقليمية لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، أُعطيت لها تسميات رنانة مثل "فرصة القرن" الاقتصادية، تمهيداً لـ"صفقة القرن" السياسية، دون الإفصاح عن مضمونها السياسي، إلا أنها في الوقت نفسه كشفت عن سياساتها الحقيقية، غير مكترثة بالحق الفلسطيني والعربي.
وإذا كان ترمب نجح في تحريك الموقف الاقتصادي الصيني بعض الشيء، وفي دفع حلفائه الأوروبيين إلى تحمّل نسبة أكبر من الإنفاق العسكري لحلف الناتو، وأسهم في مواجهة التيارات الإرهابية بما في ذلك بالمشرق العربي. فعدم اكتراث دولة عظمى بالقانون أساساً للتعامل بين الدول أمر جد خطر، يفتح الباب لتجاوزات من القوة المهيمنة والعدائية، خصوصاً مع تنامي التوجه الانعزالي في أميركا، وشعور حلفائها من آسيا إلى أوروبا والخليج أنها تتخلى عن التزاماتها وتعهداتها لحماية أمنهم ضد مخاطر من دول أخرى.
شهدنا كل ذلك التغير في المواقف الأميركية تحت سحابة استقطاب أميركي داخلي حاد، وصل في نهاية العام إلى قيام مجلس النواب الذي يحظى بأغلبية للحزب الديموقراطي بإصدار قرار بعزل الرئيس، ورفع مصيره إلى محاكمة في مجلس الشيوخ ينتظر أن يتخذ موقفاً مخالفاً لذلك، نظراً إلى توافر أغلبية للحزب الجمهوري.
وتعاملت روسيا مع الأوضاع الدولية المتغيرة بواقعية شديدة، منفتحة على كل الأطراف في كل القضايا والساحات، في آسيا بالحديث عن الجزر المُتنازع عليها مع اليابان، وبقوة في أوكرانيا عندما وجدت فرصة وضعفاً غربياً، وبمساندة مادورو عندما رأت الدعم الأميركي والغربي لمنافسه هشاً وغير مؤثر، ومع إسرائيل وتركيا لصيانة وتنامي مصالحها في المشرق والساحة السورية، وكذلك مع إيران لتجنّب تفاقم الموقف إسرائيلياً أو أميركياً، كل ذلك وفي بعض الأحيان دون وجود سوري أو عربي يُذكر.
نجحت روسيا في ملء الفراغ الدبلوماسي الأميركي في العالم العربي بجرأة وواقعية في آن، ولم تتردد في تنمية علاقاتها مع أقرب أصدقاء لأميركا مثل إسرائيل وتركيا وحتى في الاستثمار بالخليج العربي، ولم تصعد المواجهات كلما أمكن تجنب ذلك.
تحركت وأنجزت روسيا بعيداً عن الأيديولوجية، مقدرة تماماً أن قدراتها الاقتصادية محدودة، فصدّرت سلاحها أو صنعته مقابل عائد مادي مباشر ودون تسهيلات، وتجنّبت الدخول في مواجهات هي في غنى عنها، وأدارت عملياتها العسكرية بميزان من ذهب، لكل من المخاطر المحتملة والعائد المتوقع.
وأوروبياً شهدنا عاماً مضطرباً وحاسماً وواقعياً في آن، عام فرض على الدول الأوروبية التعامل مستقبلاً مع تحدياتها بجدية وواقعية، فبعد قرار البريكست والإعلان عن عزم أنغيلا ميركل ترك القيادة الألمانية خلال عامين، وصعود وهبوط مكانة التيارات اليمينية، والتوتر بين رؤى دول أوروبا الشرقية، خصوصاً بولندا والمجر بين التوجه المركزي والليبرالي الديموقراطي، بعد كل هذا أصبح لا مفر من أن تتعامل أوروبا وبعجالة مع سؤال محير، ألا وهو ما الهوية الأوروبية في القرن الـ21، وفي عالم متعدد الأقطاب، وأن تجد أوروبا آليات الريادة بها للرفع من كفاءاتها، بعد خروج بريطانيا والتغيرات في ألمانيا من أهم الدول الأوروبية وأكثرها استعداداً للريادة للمجموعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدأت الصين العام بثقة وانتعاش إزاء معدلات عالية للنمو الاقتصادي واتساع نفوذها في ظل انعزالية أميركية ومحدودية الإمكانيات الروسية، وبوادر طيبة لاتساع نفوذها الاقتصادي والسياسي دولياً بعد طرح مبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية، فضلاً عن ظهور مؤشرات في بداية العام تبشّر بعلاقات رئاسية مباشرة بين الصين والولايات المتحدة، فأصبحت الصين بأسواقها الضخمة ونفوذها المتنامي طرفاً مهماً، لا تستغني عنه الشركات العالمية الكبرى والدول النامية على حد السواء.
وانتهى العام بانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي الصيني، وردد الكثيرون داخل الصين أن الحزب الشيوعي تراجع عن فلسفة الإصلاح والانفتاح على القطاع الخاص، تخوفاً من فقدان السيطرة على طموحات ومصائر المجتمع، وهناك كذلك قلق متزايد من تفاقم الأوضاع في هونغ كونغ، وتداعياتها على المواءمات والتوازنات الصينية معها ومع تايوان.
وكشف العام حدود الانفتاح الاقتصادي والسياسي الصيني، ما أثار تساؤلات لدى عدد من الدول الصناعية الكبرى، وتحفّظات تجاه فتح أسواقها للسلع والتكنولوجيا الصينية، خشية توغلها في مجالات تمس الأمن القومي في تلك الدول.
ولم يعف العالم العربي والشرق أوسطي من تقلبات وتفاعلات على مدى العام الماضي، من المحيط الأطلنطي إلى المشرق والخليج، فعقدت الانتخابات الرئاسية في الجزائر أخيراً، ومع تحفظ عدد غير قليل من التيارات السياسية الجزائرية، ولا تزال الأوضاع في ليبيا مليئة بالتدخلات الخارجية العابثة، والساحة اللبنانية مضطربة وأمام معادلات صعبة، والعراق تحوّل من مصدر أمل وتفاؤل إلى منطقة قلق وعنف.
يوجد بالفعل ترحيبٌ بمؤشرات التقدم في تونس والسودان دون الإقلال من صعوبة التحديات، وخفَّت العمليات العسكرية في سوريا، وإن كان الاستقرار وإعادة التعمير أمامه طريق طويل مليء بالعثرات المحتملة، والأمور غير واضحة باليمن بين تفاؤل المبعوث الأممي وشعوره بانفراجة قريبة في تنفيذ اتفاق ستوكهولم، وإشاعات متعددة عن تباين في موقف أطراف التحالف وتصريحات متعددة عن الالتزام باتفاق الرياض كسبيل للحل.
خلال العام وُجِدت أحاديث عن تقدم في توفيق الأوضاع الفلسطينية بين السلطة وحماس، دون أن تترجم إلى إجراءات ملموسة لتوحيد السيادة الفلسطينية بين غزة والضفة الغربية، وهو أمرٌ تضاعفت أهميته في ضوء تعمد اليمين الأميركي والإسرائيلي هدم أسس عملية السلام واستبعاد أي احتمال للتوصل إلى حل الدولتين.
رسائل واضحة من عام مضطرب، ونحن على مشارف عام جديد يضع الكثيرين بل النظام الدولي أمام مفترق طرق، والحديث عن المستقبل قادم.