خرج قرار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالانغماس عسكرياً في الأزمة الليبية إلى العلن، خلال زيارته تونس في الـ25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بالتزامن مع ظرف بالغ الحساسية بالنسبة إلى حلفاء أنقرة الإخوانيين، تمثّل في انقلاب موازين القوى، بعد أشهر طويلة من الاقتتال، على غير مصلحة الميليشيات الإسلامية التي أحكمت قبضتها على العاصمة طرابلس، وشكّلت، على مدى السنوات الأربع الماضية، الذراع الضاربة لحكومة فايز السراج في مواجهة قوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. إلا أن مشروع التدخل التركي لم يكن مجرد ردة فعل آنية أملتها المستجدات التي تهدد بالانهيار الوشيك لآخر بؤر النفوذ الإخوانية في الدول التي طالها لهيب "الربيع العربي".
خلافاً لما يزعم الخطاب الرسمي "الأردوغاني"، لم يأتِ قرار التدخل استجابة لطلب النصرة الذي توجهت به "حكومة الوفاق" الليبية إلى وريث "الباب العالي"، بل اندرج الأمر ضمن خطة جيوسياسية مبيّتة كان الإعداد لها جارياً، على نار هادئة، منذ مطلع الصيف الماضي. خطة نبعت من تبعات مأزقين متفاقمين يواجههما أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية"، على صعيد الداخل التركي وعلى الساحة الإقليمية، في آن معا. ويمكن توصيف هذين المأزقين، إذا استعرنا أدوات علم النفس، بـ"المتلازمة الباكستانية" و"عُقدة السلطنة العثمانية"!
أما "المتلازمة الباكستانية" فقد ألقت بظلالها على السياسات الأردوغانية في أعقاب انكسار شوكة الجماعات المتطرفة في سوريا. على مدى تسعة أعوام، شرّعت تركيا حدودها لتدفق عشرات الآلاف من المتطرفين الراغبين في الالتحاق بصفوف الجماعات الإرهابية المقاتلة في سوريا، ساعية إلى استعمال هؤلاء كحصان طروادة ذي وظيفة مزدوجة: تصفية خصوماتها التاريخية مع الأكراد من جهة، واستغلال المخاوف الغربية من تنامي خطر الجماعات الإرهابية لابتزاز الدول الأوروبية مالياً وسياسياً، من جهة أخرى. بذلك، مارست تركيا "الأردوغانية" لعبة اللعب بالنار التي برعت فيها باكستان برويز مشرف حيال أفغانستان، أيام التحالف سيئ الصيت بين نظام طالبان وتنظيم "القاعدة".
فتحت باكستان أراضيها وحدودها لتدفق الإرهابيين، من مختلف الجنسيات، في اتجاه أفغانستان، ووظّفت بعض جماعاتها في صراعها التاريخي مع جارتها الهند، في إقليم كشمير، واستغلت بعضها الآخر لابتزاز حليفها الأميركي بخطر الإرهاب العالمي حيناً، أو لاستمالة رضاه أحياناً أخرى، عبر بيعه العديد من رؤوس الأفاعي الإرهابية التي كانت إسلام آباد تحتضنها وتوفر لها العناية والملاذ الآمن على مدى سنين.
لكن السحر لا يلبث أن ينقلب على من يمارس هذا الصنف من اللعب بالنار. انهار نظام طالبان، إثر هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وتوارت "القاعدة" عن الأنظار هرباً من نيران الحرب العالمية ضد الإرهاب التي أعلنتها الولايات المتحدة. وإذا بباكستان تتحول من معبر آمن وقاعدة خلفية محصنة من نيران العنف الإرهابي إلى مستنقع ترتع فيه الجماعات المتطرفة، مستفيدة من ولاءات شبكات الإمداد المحلية التي كانت تتولى رعايتها، في السابق، بتكليف رسمي من الحكومة. وبعد أن كانت المخابرات الباكستانية تتحكم بطالبان والأفغان العرب، وتديرهم عن بُعد كدمى الألعاب، دارت موازين القوى وانقلبت جدلية الجلاد والضحية، لتجد حكومة إسلام آباد نفسها في مرمى نيران الجهاديين، مع ظهور حركة "طالبان باكستان".
جرت الأمور وفق السيناريو ذاته في الحالة السورية، إذ اضطلعت تركيا بدور المعبر الآمن ذاته الذي لعبته باكستان أفغانيا. لذا، كان وقع هزيمة الجماعات الإرهابية واندحار دولة الخلافة الداعشية المزعومة، بالنسبة إلى أنقرة، شبيهاً بوقع انهيار نظام طالبان بالنسبة إلى باكستان. من هنا، نشأت لدى أردوغان وحزبه تلك "المتلازمة الباكستانية" المتمثلة في التوجس من تحوّل الأراضي التركية من معبر آمن للمتسللين نحو سوريا إلى ملاذ لفلول المقاتلين الفارين منها، إيذاناً بانقلاب السحر على الساحر الأردوغاني، ليجد نفسه - على غرار السابقة الباكستانية- في مرمى نيران الأفاعي الإرهابية التي قام برعايتها وتنشئتها.
للالتفاف على هذا المأزق، كان لزاما على أردوغان أن يضع خطة محكمة لاجتذاب فلول الإرهابيين الفارين من سوريا نحو جبهات قتال بديلة. ومن نافل القول إن إشعال بؤر العنف الإرهابية يحتاج، كما أظهرت السوابق الأفغانية والعراقية والسورية، إلى بيئة حاضنة، قوامها الانفلات الأمني والاقتتال الأهلي وتفتت السلطة المركزية. لذا، كانت الوجهة الطبيعية لهذه الخطة الأردوغانية هي القارة الأفريقية، التي تعاني ثلاث مناطق بارزة منها جراحاً غائرة من الانفلات الأمني والسياسي المواتية لتحويلها إلى بؤر جهادية عالمية، وهي منطقة القرن الأفريقي وليبيا والصحراء الأفريقية الكبرى، أو ما يعرف بمنطقة الساحل الصحراوي.
موطئ قدم
وليس من قبيل المصادفة أن سعت تركيا لأن تجد موطئ قدم عسكرياً لها في كل واحدة من بؤر التوتر الأفريقية الثلاث المذكورة. في سبتمبر 2017، دشنت تركيا قاعدة عسكرية في مقديشيو، تعد أكبر قاعدة لها خارج حدودها. وفي يوليو (تموز) 2019، سعت لاستكمال وجودها العسكري في المنطقة بقاعدة ثانية قيد الإنجاز في جزيرة سواكن التي تنازل السودان عن سيادتها لتركيا، لمدة99 عاماً، خلال عهد عمر البشير، في ديسمبر (كانون الأول) 2017. ولم يكن خافياً أن تركيا تسعى من خلال قاعدة سواكن لأن تجد موطئ قدم على مقربة من بؤرة توتر مجاورة، وهي اليمن التي لا تقل تهديداتها لأمن القرن الأفريقي عن مثيلتها الصومالية.
أما بالنسبة إلى البؤر الإرهابية في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي المتاخمة لها، فلم تعد تركيا تكتفي بالاتكاء على الميليشيات الإخوانية والجماعات الجهادية الموالية لها هناك، بل سعت أخيراً لإيجاد موطئ قدم عسكري خاص بها، من خلال التفاوض سراً مع سلطات النيجر لشراء قاعدة ماداما العسكرية الفرنسية التي قررت باريس الاستغناء عنها وغلقها نهائياً في منتصف يوليو. وقد تسببت تسريبات صحافية بخصوص المساعي التركية للاستحواذ على تلك القاعدة في جدل حاد في أوساط الاستخبارات والدفاع الفرنسية، إذ رُفعت إلى قصر الإليزيه تقارير عدة حذرت من تنامي التغلغل العسكري التركي في مناطق التوتر الأفريقية، رابطة بينه وبين رغبة أردوغان في التخلص من المقاتلين الفارين من سوريا، عبر إشعال جبهات حرب بديلة في القارة الأفريقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما اختيار ليبيا بدلاً من الصومال، مثلا، فلكون تركيا تحظى بأقوى وأكبر وجود عسكري لها خارج حدودها، فترتبط دوافعه بعاملين اثنين. يتعلق الأول بمعطى جيوسياسي يرتبط برغبة أردوغان في تكرار الابتزاز الذي مارسه على أوروبا، خلال الأزمة السورية، عبر إغراقها بموجات عارمة من المهاجرين وجعلهم يتدفقون عليها عبر البوابة اليونانية. وما من شك في أن الابتزاز سيكون أقوى وأقسى إذا ما نجحت الخطة الأردوغانية في السيطرة على البوابة الليبية، التي تعد المعبر الأبرز للهجرة السرية نحو "القارة العجوز".
وأما العامل الثاني في اختيار ليبيا، وهو الأهم، فيكمن في "عقدة السلطنة العثمانية"، المشار إليها آنفاً. وهي عقدة لازمت أردوغان منذ بزوغ نجم حزبه في مطلع الألفية الجديدة، ثم تكرست منذ أن انتقل من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الدولة 2014، وأجرى بالتزامن مع ذلك تعديلات دستورية منحته صلاحيات بلا حدود جعلته أقرب إلى السلطان العثماني منه إلى رئيس جمهورية بالمفهوم العلماني الذي كرسه مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، من خلال دستور العام 1923.
باص الديمقراطية
توالت بعد ذلك تجاوزات السلطان الأردوغاني، بدءاً من تحايله على خسارة حزبه الأغلبية البرلمانية، في يونيو (حزيران) 2015، من خلال إجراء انتخابات نيابية جديدة في نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة ذاتها. ولم يتورع، من أجل تحقيق الفوز، من تدبير سلسلة مشبوهة من التفجيرات الإرهابية التي نسبها إلى "حزب الشعوب" الكردي، الذي كان قد خرج منتصراً في انتخابات شهر يونيو! ثم جاءت محاولة الانقلاب العسكري، في يوليو 2016، لتمنح أردوغان فرصة ذهبية لإحكام قبضته الحديدية على البلاد، وبسط نفوذ حزبه على كامل مفاصل الدولة. ما جعل كاتب الافتتاحيات الشهير في صحيفة "الجمهورية" التركية، كادري غورسيل، يذكّر بتصريح قديم كان أردوغان قد أطلقه خلال الحملة الانتخابية الأولى لحزبه، عام 2002، حين قال "إن الديموقراطية مثل الباص، نركبه ثم ننزل منه حين نصل إلى وجهتنا". أضاف غورسيل أن الانحرافات التسلطية التي تضمنها الدستور الأردوغاني الجديد، الذي أقر عام 2017، تبيّن أنه نزل نهائياً من الباص الديموقراطي!
نبوءة ثبتت صحتها لاحقاً، من خلال حملات القمع والإقصاء المتتالية، التي شهدت فصل أكثر من مئة ألف موظف من القطاع العمومي، وسجن ما يفوق50 ألفاً من الضباط ورجال السياسة المعارضين، فضلاً عن قمع الصحف ومختلف أصناف التضييق على الحريات، التي طاولت كادري غورسيل نفسه، الذي زُجّ به بعد تلك الافتتاحية في سجن سيليفري، ولم يطلق سراحه سوى في شهر مايو (أيار) 2019.
نزل أردوغان، بالفعل، من الباص الديموقراطي. لكنه لم ينجح، على الرغم من ذلك، في الوصول إلى وجهته المنشودة. فالحركات الإخوانية التي راهن عليها في دول "الربيع العربي" لتحقيق حلمه المهووس بالسلطنة العثمانية سرعان ما تهاوت كقصور من ورق. ما يفسر استعداده للانغماس عسكرياً في الأزمة الليبية الطاحنة، على الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مجازفة غير مأمونة العواقب، لأن انهيار آخر القلاع الإخوانية في طرابلس من شأنه أن يدق المسمار الأخير في نعش وهم إحياء الخلافة العثمانية الذي يراوده منذ قرابة عقدين من الزمن.