في خضم الانتفاضة أو الثورة الشعبية التي عمت بيروت والمناطق اللبنانية وما برحت، منادية بإسقاط النظام البائد القائم على التقاسم الطائفي والمحاصصة وداعية إلى فضح الفساد المستشري ورموزه، ارتأت مجموعة من الشعراء الشباب مواجهة حال الانهيار والتردي، شاهرة سلاحاً وحيداً هو الشعر. محمود وهبة وزنوبيا ظاهر وباسل الأمين أو شعراء "نيزك"، ليسوا غرباء أصلاً عن ساحات التظاهر، بل لعل فكرة إحياء مجموعتهم هذه وقرار إصدار نشرة شعرية تحمل اسم "نيزك"، انطلقت من ميدان الثورة وشعارها "لا بد من إعلان حالة طوارئ، بلادنا تنتفض"، لكنها لن تبقى في حدود الميدان بل ستنفتح على أفق أرحب. هؤلاء الشباب الذين هم في مدار العشرين من العمر، وأصدروا حديثاً دواوينهم الأولى، التقوا في هذه اللحظة التاريخية من خضم لبنان السياسي، ليطلقوا صرخة تختزن كل صرخات المواطنين الذين نزلوا إلى الساحات والشوارع والأحياء، ولكن على طريقتهم، صرخة شعرية تحمل في طياتها الكثير من الغضب النقي والحلم والأمل. هل هم مثاليون، يتوهمون أن الشعر قادر أو ما زال قادراً، على إحداث معجزة، في زمن لم يبق للشعر فيه سوى موقع ضئيل؟ هل ما برحوا يعتقدون أن الشعر قادر على أداء دور جماعي أو "جماهيري" كما في مراحل الثورات الغابرة وإبان صعود موجة الشعر الملتزم؟ ألم يصبح الشعر كائناً منعزلاً ومهمشاً في حقبة سقوط الأفكار المثالية وصعود العصر المادي الذي لا يعير الإنسان اهتماماً؟ ألم تسقط مقولة الشاعر الفرنسي لوتريامون "الشعر يجب أن يكتبه الجميع"، وبات الشعر فن النخبة؟
إلا أن مشروع "نيزك" حركةً ونشرةً، يظل مشروعاً ممكناً ما دام قد انطلق من ساحة التغيير أولاً، وبصفته ثانياً حلماً جميلاً في غمرة الأحلام المقفرة والخيبات المتتالية. مشروع شبابي، نضر وطري العود، وقد يحتاج إلى المزيد من الوقت كي يتبلور وتتضح ملامحه الإبداعية. ولكن هنا تكمن أهميته، أي في كونه مشروعاً وحلماً، قد لا يتحققان تمام التحقق، فيظلان وقفاً على ما يضمران من أبعاد ومعان. ولا بد من القول إن "نيزك" مشروع جماعي وليس مشروع فرد، مشروع شعري رحب وليس قصراً على ثلاثة شعراء فقط. مشروع أجيال لا جيل واحد هو جيل الشباب العشريني. مشروع ذو طموح عربي وليس مقتصراً على لبنان. هكذا عمدت هيئة التحرير إلى نشر قصائد ونصوص لشعراء وكتاب ينتمون إلى أجيال سابقة، وإلى شعراء عرب شباب أيضاً. وقد أدركت هيئة التحرير ما معنى إصدار نشرة شعرية في زمن النشر الإلكتروني المفتوح. واختارت الصيغتين الورقية التي سيكون توزيعها محدوداً، والصيغة الإلكترونية التي ستتخطى تخوم الجغرافيا. لا يخلو مشروع "نيزك" من شيء من "البراءة" التي تمثل واحدة من ضرورات الشعر. لا تنظير ولا ادعاء ولا تصنيف مدرسياً أو "أنواعياً" ولا مذهبية شعرية أو انحياز لقصيدة من دون أخرى. حيز شعري مفتوح، حتى أمام قصائد تشكو بعضاً من ضعف أو أخطاء. ونجحت الراهن، مضيفة بضعة أسماء مكرسة أو معروفة. وقد تعبر الافتتاحية التي وضعها الشعراء الثلاثة للعدد الأول للنشرة عن طبيعة مشروعهم. وقد اختاروا صفة "نشرة" عوضاً عن مجلة أو جريدة اللتين تتطلبان امتيازاً رسمياً، يقابله دفع مبلغ مادي غير قليل، لا يملكونه أصلاً، وهم يمولون طبع النشرة من جيوبهم. لم يخل البيان – المقدمة الذي جاء بعنوان "لا بدّ من إعلان حالة طوارئ، بلادنا تنتفض" من نبرة غضب واستنكار ورفض، ما يذكر قليلاً ببيان الحركة الدادائية التي انطلقت في زوريخ عشية الحرب العالمية الثانية داعية إلى الهدم والتغيير. وورد في بيان "نيزك": "سحر الأحلام ينتهي حينما نغدو، بلحظة طفرةٍ، ثوّاراً، يصير دماً. ما جدوى الشعر في زمنٍ حقيقيّ كالموت والخراب والنيازك؟
سؤال محقّ مشروعٌ لن نجيبكم عنه. لا إجابات في الشعر. أسئلة فقط. نحن ثلة قلق. ننتمي إلى أرقٍ أبديّ. لا ننامُ إلّا حين تستيقظون. أحلامنا بسيطة، أقصاها أن نكسر إبريقاً من الفخّار على رأسٍ تافه، وأقلّها أن نعيد خلق هذا العالم. نحنُ أحفادُ الحرب. لم نتجرّع منها سوى سأمِ أبنائها. هبطنا من أرحامِ أمّهاتنا ناقمين، انتحاريّين. كلّما لاحت لنا أعلامٌ تظلّلنا... سنعضّها. نحنُ متصالحون مع فيء السماء. كلّ كتابةٍ انفجار... ونحنُ مُعدّون لانفجارات لا تنتهي.
قالوا لنا حين كنّا أطفالاً بأنّ الشعراء مجانين. وبرغم محاولات كثيرين منّا الهرب من هذا الجنون، نحن الآن مفضوحون. فهمنا لاحقاً أنّ الجنون مطيّتنا الوحيدة إلى الحياة، وكذلك إلى الموت. لنا آباءٌ نحبّهم. لكنّنا نقرأهم بخناجر. من الحبّ ما طعَن. التراجيديا والكوميديا عندنا سيّان. نحنُ أبناء العمقِ، نعيش في غابات الوقت. لا بداية ولا نهاية عندنا. رماديّ زمننا. ووحشيّ أيضاً.
لسنا جماعة، نحنُ مجموعة. مستنفرون؟ أجل مستنفرون. ضدّ القرف الموروث. ثمّ إنّه يكفي أنّ لدينا ما نقوله ولا نتردّد في قوله... لا نطلبُ شيئاً أكثر ممّا لنا. ولا نبتغي أكثر مما نطلب. لا نرجو فرض رأي أو اتّخاذ قرارٍ أو خلقَ أدب جديد أو قصيدة جديدة، ولا أيّ فكرة جديدة، كلّ منّا فكرة جديدة، وأصيلة. مهمّتنا الكبيرة أن نعوي في ليلكم مثل الذئاب، أن نطرطق بالطبول فوق آذانكم. خافوا، أو على الأقلّ استيقظوا. همّنا الكبير أن نخلق منبراً وحيداً وسط ضجيج المنابر، بعيداً عن الأدلجة، والتأطير. همّنا النقد. الحقيقيّ منه. فنصوصنا المجنونة تُصنّف وفق معايير شخصيّة أو حزبيّة أو ذوقيّة لا شأن لها بالأدب كما قرأناه أو عرفناه. صنّفونا، أنقدونا، شرّحونا.. لا بأس. لكن أرونا أدواتٍ تستحقّ. إنّنا نبحث عن الفراغ. متّسعٌ ما للبناء، فهذا العالم مكتظٌّ، ولا مكان فيه للزوابع. مستنقعاتٌ آخذة بالتناسل دون هوادة. لهذا السبب، نصنعُ ونطلقُ هذه المساحة لكم ولنا. كي نكتب ونقول وننشر الأدب والشعر والفن والتشكيل ... نحنُ "نيزكٌ"، يدخل الآن فضاء الأرض. لا تنتظروا اكتمال اشتعاله. لن يتوقّف. نارٌ ساحرةٌ لن تخمد إلى أن يموت آخر شاعرٍ على وجه هذه الأرض".