شهد السودان خلال الأسبوع الماضي أحداثاً أمنية دامية في جهات مختلفة، في أقصى غرب السودان بمدينة الجنينة، وفي العاصمة الخرطوم، وكذلك في أقصى شرق السودان بمدينة بورتسودان، حيث تجددت الاشتباكات بين المكونين القبليين في المدينة (بني عامر والنوبة).
بكل تأكيد، هناك رابط بين الأحداث الأمنية المتنقلة في المدن الثلاث، وهو ما حدث في الجنينة من قتل تسببت به أطراف مسلحة في معسكر كرندنق للنازحين، وإحراق للسوق في مدينة الجنينة جدد الفزع بالفظائع التي كان يرتكبها نظام عمر البشير في دارفور منذ عام 2003، ومهاجمة عصابات النيقرز مستشفى في الخرطوم والتعدي على المرضى والأطباء فيه، ومهاجمة 500 مسلح من عصابات النيقرز بالسواطير والأسلحة البيضاء مواطنين أبرياء في سوق مدينة أم درمان (وهو السيناريو ذاته الذي كان بدايةً للاقتتال الأهلي بين مكونين من مكوّنَيْ مدينة بورتسودان، حيث بدأت هذه العصابات بالهجوم على سوق المدينة).
تطور الأحداث في بورتسودان
في سوق مدينة بورتسودان، اعتدى صاحب سوابق جنائية على محل بهدف السرقة. ونجم عن ذلك عراك بين المعتدي وصاحب المحل. وخلال المشاجرة طُعن المهاجم. وفي الحال، سلّم صاحب المحل نفسه للشرطة وأفاد في المحضر بأنه تشاجر مع المعتدي، لكنه لم يكن هو من تسبّب في طعنه.
حدث ذلك صباحاً، لكن ومنذ الساعة الثانية ظهراً، تجمّع قرابة 75 شخصاً من مكون النوبة عند مفترق طريق حيين (وهما حيان يفصل بينهما طريق أسفلت أحدهما لمكون النوبة والثاني لبني عامر) في حالة من التظاهر والتنديد بمقتل الشخص المتفلت (على الرغم من أن الحالة فردية ولا علاقة لها بالصراع القبلي)، ما أدى إلى تجمع مقابل من بني عامر والحباب في المكان ذاته، ومع ساعات الليل بدأ الاشتباك الذي راح ضحيته 3 قتلى.
تجددت الاشتباكات ظهر يوم الجمعة وأسفرت عن سقوط 5 قتلى وحُرقت بيوت في الجانبين. وتحدث شهود عيان عن إطلاق نار من جهة غير نظامية لعناصر يُشتبه في أنها من عصابات النيقرز عبر دراجتين ناريتين لا تحملان لوحتين. أطلقوا النار في اتجاه مواطنين في حي دار النعيم (الذي يسكنه مكون بني عامر) ممّا خلّف إصابات، وسط تفرج قوات الشرطة والدعم السريع والجيش.
وعلى الرغم من الهدوء الذي بدأ منذ ليل الجمعة، مع فرض حظر التجوال في مدينة بورتسودان منذ الخامسة عصراً، إلاّ أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو أين دور الشرطة في المدينة؟
فحين لا تتخذ الشرطة تدابير أمنية بإقامة مقار دائمة لها في مناطق التماس (لا سيما أن لا مقار للشرطة في حيّيْ القبيلتين) إثر نزاعين أهليين حدثا بين المكونين، الأول في يونيو (حزيران) 2019 ثم تجدّد في أغسطس (آب) من العام ذاته، سنجد أنفسنا أمام تقصير واضح من الشرطة وغياب الواجب الأمني والتدابير الاحترازية التي تمنع عودة الاشتباكات. وها هي المناوشات تظهر من جديد في يناير (كانون الثاني) ويقع ضحايا. ووفق شهود عيان، فإن مطلقي النار على مجموعة من المواطنين في حي دار النعيم عبر دراجات نارية لم تطاردهم الشرطة ولم يتم القبض عليهم، بل ولم تصدر الشرطة بياناً بهذا الصدد، ما يترك علامات استفهام كثيرة.
الأدهى من ذلك، أن الشرطة بعدما علمت بحادثة الشجار في السوق، كان عليها أن تكثّف التدابير الاحترازية في مناطق التماس المحتملة بين الحيَّيْن، لكنها لم تفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلك الدلائل تعكس حقيقتين واضحتين، الأولى أن اللجنة الأمنية في الولاية ومقررها مدير الشرطة اللواء محمد موسى لم تقم بواجبها في حماية المواطنين، على الرغم من تكرر الصراع بين القبيلتين مرتين (في المرة الثانية كان الصلح برعاية نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي"). وهذا مؤشر خطير وينذر بكوارث مقبلة ما لم يُصار إلى تغيير هذه اللجنة الأمنية ومدير شرطة البحر الأحمر. فالشرطة في ولاية البحر الأحمر تملك قوات الاحتياطي المركزي المدربة على التعامل مع تلك الأحداث والتفلّتات الأمنية. وللأسف، حتى القوى التي كانت تفرّق المشتبكين باستخدام قنابل الغاز المسيلة للدموع، كانت قوة من الدعم السريع، وليست الشرطة التي كانت هي الأوْلى باستخدام تلك القنابل كونه مجال عملها.
والحقيقة الثانية، أنه بدا واضحاً لكثيرين أن هناك جهة ما خفية هي التي تدير هذه الأحداث وتتسبب بالفتن بين المكونين، بدليل أنه عندما انسحبت قوات الجيش والدعم السريع لوقت قصير، الجمعة، من منطقة الاشتباكات (قبل أن تعيد تمركزها في وقت لاحق من اليوم ذاته)، هدأت الاشتباكات مباشرة. وهو مؤشر واضح على أن لا رغبة حقيقية في الاقتتال لدى أي من المكونين (وإلاّ فالمتوقع من انسحاب الجيش والدعم السريع أن تزداد الاشتباكات ضراوة)، كما أنه قبل الاشتباكات بيومين، كان ناظر النوبة يحتفل مع بني عامر في ناديهم لمناسبة عيد الاستقلال الذي يصادف الأول من يناير من كل عام.
ووفق الكاتبة الصحافية السودانية شمائل النور، فإن ثمة علاقة بين عصابات النيقرز وجهاز الأمن في ظل حقبة نظام البشير الذي ما زالت فلوله تعمل على زعزعة الأمن، وهو ما دلّت عليه الأحداث المتجددة والمتنقلة لزعزعة الاستقرار في كل من غرب السودان ووسطه وشرقه.
لهذا، من الضروري إقالة اللجنة الأمنية في مدينة بورتسودان ومقررها اللواء محمد موسى، مدير الشرطة بعد فشلهما المخجل والمريب خلال المراحل الثلاث التي مر بها الاقتتال بين مكوّنَيْ النوبة وبني عامر والحباب في مدينة بورتسودان، منذ يونيو حتى أغسطس، وصولاً إلى يناير الحالي.